الإبداع دائماً ما يخضع لمساحة كبيرة من الجدل.. فأي عمل فني منذ فجر التاريخ تجد له مؤيدين ومعارضين، ناس مع، وناس ضد، وفي كل الأحوال تلك الاجتهادات من هنا أو هناك لابد أن تخضع للغة المنطق، والرد عليها أيضاً من القائمين علي العمل لابد أن يكون في إطارها الصحيح بعيداً عن لغة الصوت العالي، والآراء الحنجورية التي بدأت تغلف كل حياتنا، خاصة في القضايا التي تحتمل أكثر من وجهة نظر، لذلك لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يخرج أحد صناع الجزء السادس من «ليالي الحلمية» المقرر تصويره خلال الفترة القادمة ويتهم المعترضين علي هذه الفكرة بالجهل لمجرد رفضهم فكرة إعادة هذا العمل الأهم في تاريخنا الدرامي، خاصة أن قرار العودة للحلمية جاء بعد ربع قرن تقريباً، من نهاية الجزء الخامس، والعودة جاءت بكاتب ومخرج جديد بعد رحيل المبدعين الحقيقيين للعمل، السيناريست أسامة أنور عكاشة، والمخرج إسماعيل عبدالحافظ. والغريب أن يخرج هذا الاتهام من أحد القائمين الجدد علي العمل وهو يعلم أن جزءاً من المعترضين أو جميعهم ربما يكونون أكثر دراية منه، بما سوف يحدث من تشويه للعمل؟.. من حق كل مصري أن يخاف علي ثروته الفنية، خاصة أن الأجيال الجديدة لم تنجح في تحويل عمل واحد من السينما إلي الدراما، وهي التجربة أو الاختبار الذي خضع له الكتاب والمخرجون الذين ينتمون للأجيال التي تحكم قبضتها الآن علي سوق السينما والدراما، وبالتالي فعمل جزء سادس من الحلمية ربما يكون تشويهاً جديداً لعمل له قيمته في تاريخنا الدرامي. ولذلك من حق أي مصري وعربي أن يعترض، وهنا يجب ألا يقابل اعتراضه بالانتقاص من قدره، وكنت أتمني أن يكون الرد من خلال عمل جيد يجعلنا جميعاً نصفق له ونعتذر، لكن قوبل الاعتراض بكلمات لا ترتقي للغة الحوار الذي نريده أن يكون في مجتمعنا المصري. المعترضون لهم منطقهم الذي يقول «من أين سنأتي بسيناريست مثل أسامة أنور عكاشة الذي تخصص في أعماله بتشريح المجتمع المصري؟»، واستطاع أن يتحدث بكل لغات المجتمع المصري «الصانع في المصنع والطبيب والمهندس والمعلم والصحفي وعامل النظافة والشرطي»، ومن أين سنأتي بإسماعيل عبدالحافظ. أزمتنا الحقيقية التي نعيشها الآن أن كثيرين منا نجحوا في الحصول علي مزايا كثيرة بسبب الصوت العالي ولغة التهديد والوعيد، رغم أن نفس هؤلاء الأشخاص هم الذين يطالبون الناس في أحاديثهم بضرورة التحلي بالهدوء، وهم أنفسهم الذين يطالبون بحرية الرأي. نعم هناك كثيرون من الناس من نقاد وصحفيين وفنانين ومن عموم الناس يرفضون إعادة أو استخدام أي عمل قدم في الماضي وحقق نجاحاً، والذين يؤيدون هذا الرأي يرون أن بعض الفنانين يحاولون استغلال بعض الأعمال الدرامية والسينمائية الناجحة بوسيلتين، إما إعادة تقديمها بأبطال جدد مثل ما حدث من نقل أفلام إلي عالم الدراما أو بالوسيلة الجديدة التي تم ابتكارها ألا وهي عمل أجزاء إضافية، وأتصور أن «ليالي الحلمية» سيكون البداية وليس النهاية. الرافضون لهذا المبدأ معهم كل الحق في الرفض لأن «ليالي الحلمية» نموذج للعمل الدرامي المتكامل، سيناريو وإخراج وأبطال، ومهما كان المبدع والمبتكر الذي سوف يواصل الكتابة فلن يستطيع أن يعيد هذا النجاح. والأولي أن يقدم عملاً آخر باسم آخر يؤرخ للمرحلة الراهنة إن أراد هذا، أما إعادة التاريخ البعيد فهذا أمر لا يليق، من أين سوف نأتي بميشيل المصري الذي وضع لحن المقدمة والنهاية؟.. ومن أين سنأتي بسيد حجاب آخر ليكتب البداية والنهاية؟.. ومطرب في حجم محمد الحلو.. ومن أين سنأتي ممن هم في موهبة الفخراني والسعدني وفردوس عبدالحميد والراحل سيد عزمي والمعلم الراحل سيد عبدالكريم وعبدالعزيز مخيون وسهير المرشدي وصفية العمري وفتوح أحمد وشوقي شامخ وحسن يوسف ولوسي وإلهام شاهين وآثار الحكيم وممدوح عبدالعليم وهشام سليم.. إلخ. كل هذه الأسماء من الصعب تكرارها ومن الصعب مهما تم بناء شخصيات جديدة امتداداً لهم أن نكرر هذا الأداء الذي كان طبيعياً وتلقائياً، لذلك كانت الأسرة المصرية تعتبر تلك الشخصيات جزءاً من نسيجها، جزءاً من تكوينها، تنظر لزينهم السماحي «المعلم» علي أنه الإنسان الشهم الذي يسكن نفس الحارة والشارع، والباشا سليم البدري، والعمدة سليمان غانم، وغيرهم، علي أنهم من أفراد الأسرة كل حسب الطبقة التي ينتمي إليها. لذلك مهما كان المؤلف وخياله فهو لن يصل إلي ما وصل إليه السيناريست أسامة أنور عكاشة، هناك مناطق لا يجوز لأي فنان أن يلعب فيها، هي مناطق شائكة يجب أن تعامل معاملة الآثار لا تقترب منها. وإذا كانت أسرة أسامة أنور عكاشة قد تنازلت بهذه السهولة عن حقوق الراحل الكبير، فكان علي الدولة أن تتصدي لهذا الأمر لأن «ليالي الحلمية» هي إبداع مصري خالص لا يملكه أحد.. هو ملك للدولة المصرية.. ولا ننسي أن هذا العمل كان من إنتاج الدولة المصرية ممثلة في قطاع الإنتاج التابع لاتحاد الإذاعة والتليفزيون.. في كل الأحوال الزمن لن يعود إلي الخلف والنجاح الذي حققته الحلمية سوف يحرق من يقترب منه.. لذلك أكون سعيداً جداً بأنني من أوائل الجهلاء الذين هاجموا هذا العمل قبل ظهوره طالما أن هناك من يحاولون مصادرة آراء الناس واتهامهم بالجهل لأنهم يدافعون عن تراثنا. وفي النهاية سوف يحكم الجميع بعد عرض الجزء السادس من هو الجاهل؟.. علي طريقة المسلسلات البوليسية.. من الجاني؟