سريعاً مر أربعون يوماً على رحيل الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى الذى توفى في 21 أبريل الماضى.. الأبنودى شاهد عيان على نصف قرن من حياة مصر، اختبر خلالها الشخصية المصرية. وذاب في خصائصها، وكان إذا أعجبه موقف إنسانى أو حدث تتنامى حماسته فيتغلغل باستفاضة في أصول الأشياء. ويحدثك في قصائده عن أقمار الوطن وشموسه، الغائب والحاضر منها.. لا تملك أمام سيل الشاعرية الملتهبة دائماً وطوفان الصراحة الموجعة، إلا أن تستسلم لمنافستو إلهامه الزاخر دائماً.. حيث يتداخل بشعره في استقدام نتائجه وعبر المسائل التفصيلية.. مؤكداً في الأخير عن ارتباط القصيدة بحوارنا الاجتماعى وبالحراك السياسي وبالثورة وبالنبض المخفى داخل جسد هذه الأمة، ولهذا فحينما حقق مشروعه الأشهر «السيرة الهلالية» كان ينبض من خلال هذه السيرة التي تلخص الوطن العربى وتمد جسورها من اليمين إلى الشمال، ضاربة جذورها في عناقيد الترحال والتجوال المستمر، «السيرة الهلالية» التى أنجزها الأبنودى مشروع العمر الذى أزاح من خلاله التراب عن وجه التاريخ الشعرى للعامية المصرية، واضعاً لها قانون البراءة لتواجدها ولتحديها لكل صنوف الإبداع.. كافح الأبنودى في هذا الطريق حتي توج العامية المصرية بجائزة الدولة التي كانت تتعالى عليها ولا تقترب منها، وترميها بالتدنى. وربما أقول عرضاً إنه جاء من أحد أجزاء الجبرتى المفقودة، ما كان ينبغى أن نعرفه عن الأسير داخل زجاجات مرمية من غريق في بحر التيه.. ما كان ينبغي أن نعرفه عن السجين المناضل الذي لا يهادن ولا يقبل المراوغة.. وما كان ينبغي أيضاً أن نعرفه سلاحاً في فم الفقراء، وفي الاستقصاء عن نوادر المخطوطات العربية الموجودة في مثاليات المثقفين العرب وربما في خيالهم أكثر من مكاتبهم وأوراقهم.. لذلك فالأبنودى لأكثر من سبب ينبغي أن يعود بنا إلي ستينات القرن الماضى، حيث الثلاثى الناضج القادم من صعيد مصر.. عبدالرحمن الأبنودى وأمل دنقل ويحيي الطاهر عبدالله، والثلاثة ثلاثة كنوز مصرية خرجت من جذور الأرض المتمردة. مشحونين بالغضب والثورة والتأمل. اختطف الموت أول ما اختطف يحيي الطاهر عبدالله.. أحد أعمدة القصة القصيرة ولو عاش لكان أول التشيكوفيين في مصر وعالمنا العربى ترك لنا أربعة وستين قصة شكلت رؤية ثاقبة ونحتت إبداعاً خاصاً لا يشبه غيره.. ثم نجح الموت في اختطاف أمل دنقل الذي اتفق أنه أمير شعراء الرفض كما توجه لويس عوض.. وبقي الأبنودى صامداً ليعيش أكثر من محنة في مصر تصعد بنا وتهبط وكثيراً ما تهبط ولا تصعد.. الأبنودى رسم مصر بالأبيض والأسود وبالألوان وبالحفر علي جلد الوطن، بدءاً بديوان «الأرض والعيال» عام 1964، وكان هذا الديوان هو مفتاح شخصية الأبنودى مثلما كان «الناس في بلادى» لصلاح عبدالصبور و«البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» لأمل دنقل.. ثم كان ديوان «الزحمة» في بدايات عام 1967 وقبيل النكسة، كان مليئاً بالأمل والتحذير معاً. ديوان غريب مدهش يرصد فيه الأبنودى بعض التجليات نحو مخاوف حدثت في الخامس من يونية.. أما ثالث دواوينه فكان عام 1968 بعنوان «عماليات» وضم أشهر قصيدة عبرت عن شخصية المصريين في 1967. «عدى النهار» كانت وكأنها محاولة للتطهر وخريطة للخروج من الهزيمة. الأبنودى عاش أحلام مصر وهزائمها وطموحها، ولكنه كان يترقب ثورة 25 يناير مثل كل المصريين.. وشارك فيها بشعره مثلما فعل مع ثورة 30 يونية التي صححت مسيرة الأولى. الأبنودى أمير شعراء العامية في مصر في العهد الحديث. ويشاء القدر أن يرحل في نفس يوم رحيل صلاح جاهين, وهما اللذان شكلا أهم ظاهرة شعرية بالعامية المصرية بعد رحيل بيرم التونسى.