يعد الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية على مدي تاريخها الطويل منذ أن بدأ الغناء والتلحين.. ينتمي لمدرسة المشايخ والشكل التركى القديم إلي أن تحرر من هذه النزعة وأصبح للغناء المصرى والعربى خصوصيته والتي بدأت عن طريق «سيد درويش» و«القصبجى»، ثم جاء عبدالوهاب ليضيف إلي هذا النغم الجميل جمالاً. صوت «عبدالوهاب» كان جميلاً وألحانه تعكس ألحانه وعبقريته، ولذلك لا يمكن أن تستمع لأعماله إلا من خلال صوت متمكن يمكنه أداءها، كما يجب أن تكون كما صنعها موسيقار الأجيال، والمعروف أن عبدالوهاب كان يميل للصوت الذي يؤدى أعماله بشكل يظهر فيه شخصية المطرب نفسه وليس شخصية عبدالوهاب علي ألا يخرج عما تمت كتابته موسيقياً، فهو بطبعه لم يكن يميل للمدرسة التي تبالغ في الغناء، لذلك كان يجب الاستماع لأعماله من خلال صوت المطرب محمد الحلو، وكان يري فيه الأنسب لأداء أعماله، أيضاً جمهور الموسيقي العربية عندما يريد الاستماع لعبدالوهاب يقفز لأذهانهم صوت الحلو، في هذا الحوار تحدثنا مع الحلو عن أول مرة التقى فيها بالموسيقار عبدالوهاب وما أهم النصائح التي قدمها له وآخر لقاء جمع بينهما. يقول «الحلو»: منذ أن كنت طالبا في معهد الموسيقي العربية وأنا أغني أعمال عبدالوهاب، خاصة الأدوار الخمسة التي لحنها والتي تعد أكبر قالب موسيقي وغنائى، أما أول مرة شاهدت فيها عبدالوهاب فكانت أثناء الإعداد لاحتفالية عيد ميلاده بالمعهد وفوجئنا بالدكتورة رتيبة الحفني تدخل قاعة سيد درويش أثناء إحدى البروفات التي كان يقودها الراحل الكبير «حسين جنيد»، ومعها الموسيقار الكبير عبدالوهاب وكان ذلك في نهاية السبعينيات، ووقتها ضجت القاعة بالتصفيق الحار من الفرقة والتي كان أغلبها من طلاب وأساتذة المعهد، لذلك لم تكن رؤيتهم لعبدالوهاب بالأمر الهين، وشاهد البروفة وبعدها طلبتني الدكتورة رتيبة الحفني وقالت لي إن الأستاذ «عبدالوهاب» عاوز يشوفك في بيته، وبالفعل ذهبت إليه معها ولسوء حظي كان يوماً مترباً وبمجرد أن دخلت منزله «عطست» فإذا به يطلب مني تأجيل الموعد بعد عشرة أيام ظناً منه أنني مصاب بالبرد أو الإنفلونزا، وخرجت من منزله شبه مطرود، والحمد لله أن حفل عيد ميلاده كان بعد شهر، ومرت الأيام وذهبت إليه في الموعد الجديد واستقبلني في حجرة مكتبه وأخرج شريط كاسيت أصفر اللون ماركة «فيلبس» ووضعه في الكاسيت وقال لي غني يا «حلو» وبالفعل بدأت غناء أغنية «الليل لما خلى» وهذه الأغنية تحديداً كانت فارقة في حياة عبدالوهاب وفكر الموسيقي العربية ككل لأنها حررت الغناء العربي من فكرة غناء المشايخ الذي كان يعتمد علي «الهنك» والجديد في هذا العمل أن «عبدالوهاب» ابتكر أسلوب المد في الحروف، ووقتها اتهم بأنه يشوه الموسيقي العربية وأنه يقوم بتغريب موسيقانا، لذلك كان «عبدالوهاب» حريصاً علي أن يستمع إلي قبل أدائها علي المسرح للاطمئنان علي قدرتي في الأداء. وبدأ «عبدالوهاب» العزف علي العود وبدأت الغناء، وكانت أهم نصائحه لي ألا أبالغ في الغناء وأكون بسيطاً جداً، وطلب مني إعادة بعض الجمل، وكان هناك جمل أخرى يقول لي: أنت بتقولها أحسن من «عبدالوهاب» كنوع من بناء الثقة بداخلى، وعندما كنت أحاول التجويد حتي يستمع لقدراتي كان يتوقف يقول لي: لا كده الغنا بلدى قوى، وبالفعل كانت كل ملاحظاته دقيقة وأفادتنى طوال مشوارى، وحضر إلى الحفل وشاهدته وهو يمسح دموعه أثناء غنائى لهذا العمل. كان هذا أول لقاء يجمعني به. اللقاء الثاني عندما استمع إلي إحدى الحفلات بالإذاعة، وكنت أغني عملين من أعماله هما «لأ مش أنا اللي أبكى» و«يا مسافر وحدك» واتصل بي في المنزل وطلب مني الذهاب إليه مع الشريط المسجل عليه الحفل واستمع إليه معي مرة ثانية وكانت نصيحته لي في هذا اليوم أن أواصل مشوارى بهذا الشكل.. وقال لي أيضاً إنني أغني أعماله بشخصية محمد الحلو وقتها علمت وأيقنت أنه بالفعل يحب صوتى، ثم كان اللقاء الثالث في نشيد الأرض الطيبة، حيث اختارني للمشاركة فيه ووقتها غنيت المقطع الخاص بي من أول مرة في التسجيل ولم يطلب مني الإعادة وفوجئت به فى حجرة الكنترول فخفت جداً لأنني وقتها كنت أشعر أن غنائى لم يعجبه، فسألته فكان رده «حلو يا حلو» تغني تاني ليه. أما آخر مرة التقيته فيها فكان بالإذاعة في استديو 46 كان يسجل أغنية «في يوم وليلة» للست وردة وصافحته، ووقتها كان معه حسين السيد شاعرنا الراحل الكبير وقمت بتوصيله لمنزله بالزمالك. وأضاف «الحلو» أن شخصية عبدالوهاب الإنسانية كانت تجذب أي إنسان، فهو يقدر الموهبة تماماً، كما أنه يجبر أي إنسان علي احترامه إلي جانب ثقافته التي لا حدود لها. الموسيقار «عبدالوهاب» عندما أطلق عليه موسيقار الأجيال لم يكن هذا من فراغ لأنه كان النافذة التي نطل من خلالها علي كل ما هو جديد وفريد. كان الجسر الذي يربط بيننا وبين الموسيقات العالمية، ونحن كفنانين استفدنا من ثقافته كثيراً، كان أباً في سلوكه مع أي موهبة شابة. وأضاف «الحلو»: أيضاً من أهم حفلات حياتي تلك التي اختارني فيها للغناء في يوم ميلاده بلندن في قاعة «البرت هول» وكان يشاركني الغناء نادية مصطفي ومحمد ثروت. وعن رحلة «عبدالوهاب» وكيف يقيمها.. قال «الحلو»: في يوم رحيله قلت جملة وأتصور أنها تحققت قلت وقتها «رحل عبدالوهاب الذي كان يحافظ علي الأغنية المصرية من العبث.. ويا خوفى علي الأغنية بعد رحيله»، وبالفعل انهار الغناء بعده، «عبدالوهاب» رحمه الله كان بالفعل أكبر محافظ علي هيبة الغناء المصرى، فهو كان القيمة والقامة كان رئيس جمهورية الأغنية والفن كله، لذلك فقد الفن المصري هذا الموسيقار الكبير. وقال «الحلو» إن حرصى علي أداء أعمال «عبدالوهاب» هو رد جميل له ولأن أعماله أيضاً فيها القيمة التي يحتاج إليها أي فنان. وعن العمل الذي يتمني أن يقدم ل«عبدالوهاب» ولم يغنه من قبل.. قال أكيد «الجندول»، وعن مواصفات الصوت الذي يغني أعمال عبدالوهاب قال: هذه المواصفات حددها موسيقار الأجيال، فهو كان يحب البساطة والتعبير في الغناء كان يطلب مني أن أغني معني الكلمة، وذات مرة كنت أغني أمام الراحل الكبير وديع الصافي وحاولت أن أنهي أغنية «لأ مش أنا اللي أبكى» بشكل غير الذي غناه «عبدالوهاب»، ففوجئت بوديع أيضاً يقول لي لا.. «عبدالوهاب» لو أراد أن ينهيها كما قلت الآن لفعل قل معني الكلمة وهي التي لا رجعة فيها كما تنتهي الأغنية. وهنا أيضاً درس من فنان كبير أيقن سر فكر «عبدالوهاب»، ومن يومها لا يمكن أن أجود في أي عمل من أعماله. سألت «الحلو» في النهاية: هل كنت محظوظاً أم غير محظوظ لأنك ظهرت في وقت كان «عبدالوهاب» قد بدأ يستعد للرحيل.. قال: بالعكس كنت محظوظاً لأن جيلي والحجار كان همزة الوصل بين جيل الكبار والأجيال التي جاءت بعدنا.