لم تمنعهم حرارة الشمس الحارقة من البحث عن قوت يومهم، تجدهم يفترشون الأرصفة فى العديد من المناطق كالمقطم وميدان السيدة زينب وأسفل كوبرى أبوالريش وغيرها انتظاراً لمقاول الأنفار الذى يأتى ويختار من بينهم ما يشاء. وهم فى نهاية المطاف واقعين ما بين المطرقة والسندان.. ما بين الحاجة من أجل الحصول على حفنة جنيهات قليلة لا تكفي احتياجات أبنائهم من جهة وبين الإهمال وتهميش المجتمع لهم وتجاهله لحقوقهم من جهة أخرى، عمل قهري أجبروا عليه للهروب من شبح الفقر وقلة الحيلة فأصبحوا يتحملون قسوة الحياة والغربة عن أبنائهم وزوجاتهم بل الأكثر من ذلك فهم يكافحون ويحفرون فى الصخر لكى لا يكونوا عبئاً على أحد وكل ذلك يهون من أجل لقمة العيش إنهم عمال اليومية أو ما يطلق عليهم «الفواعلية» أو عمال التراحيل. تشير الإحصائيات التى أصدرها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عام 2011 إلى أن عدد عمال اليومية أو الفواعلية بلغ 8 ملايين عامل، بينما قدر ناشط عمالى، عدد عمال التراحيل فى مصر بأكثر من 12 مليون عامل، فهى إذن فئة لا يستهان بها لكثرة تعداد أفرادها. وينتمي «الفواعلية» إلى طائفة المهمشين الذين لا يستطيعون الحصول على أبسط الحقوق الآدمية التى يكفلها الدستور والقانون فى كل بلدان العالم ما عدا مصر. قامت «الوفد» برصد هموم ومعاناة هؤلاء للبحث عن حلول لأزماتهم ومطالبهم البسيطة والتى حاولنا التعرف عليها فى السطور التالية. عم «نادى عبدالجواد» من بنى سويف يعول والدته وثلاثة إخوة، بالإضافة إلى عائلته الصغيرة المكونة من زوجته وطفلين، يحكي مأساته قائلاً: «إذا مرضت يوماً واحداً لا أستطيع أن أجد قوت أسرتي.. وليس لنا أحد إلا الله الذي لا ينسانا أبداً.. أنا بفضل شغال طول اليوم وبحمد ربنا لما بدخل على عيالى ومعايا رغفين وكيس فول واللى بيخلينى أستحمل تعب اليوم كله لما برجع وأقعد فى وسط ولادى وده عندى بالدنيا كلها والحمد لله فى آخر الليل بنام وسط عيالى وضميرى مرتاح». أما «طه» الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، فكان أكثر موهبة في التعبير عن معاناته، يعمل فى هذه المهنة منذ نعومة أظافره، وورثها عن والده وأجداده يقول: «أنا طول عمرى شقيان وكتفى معلم من (القصعة)، عمرى ما ارتحت إحنا بنبنى القصور وعايشين فى الجحور بدخل فيلا علشان أشيل زلط ورمل لحمام سباحة وألاقيهم بيأكلوا الكلاب لحمة ولما ييجوا يحاسبونى يدونى عشرين جنيه وأخدها وأقول الحمد لله».
خائف علي البنات وأثناء جلوسى مع عمال التراحيل لفت انتباهى وجود رجل يجلس بمفرده بعيداً عنا وكانت ملامحه تدل على أنه يحمل هموماً وأعباء كثيرة لم يستطع أحد تحملها، اقتربت منه وسألته عن اسمه قال لى اسمى: «خيرى» عندى 53 سنة، لكن ملامحه تدل على أنه قد تجاوز الثمانين من عمره.. سألته: «بتشتغل إيه؟».. فأجاب: بشتغل فى الفاعل بشيل تراب وزلط وأحياناً اضطر أن أحمل زبالة المهم إنى فى آخر اليوم أدخل على ولادى ومعايا لقمة تسد جوعهم.. ولكننى بحمد ربنا إنى طول عمرى بشتغل الشغلانة دى ومهما أتعب عارف إن ده المكتوب، لكن نفسي أحد المسئولين يسمعوني (أنا خلاص رجلى والقبر خدمت البلد دى كلها شيلت تراب الغفير وشيلت زلط وأسمنت لعمارة وزير وربنا ما رزقنيش غير ببنتين لو مت هياكلوا ويشربوا منين مش معقولة هيروحوا يشتغلوا فى الفاعل زى أبوهم ودول بنات، أنا كل اللى عايزه إنهم يعملوا نقابة لينا يبقى لينا معاش ثابت وتأمينات علشان لو حصلنا حاجة عيالنا يلاقوا ياكلوا).. وأثناء اندماجى فى الحديث مع عم «خيرى» فوجئت به يقف فجأة ويجرى مسرعاً تجاه أحد الأشخاص جاء ليستأجر أحد الفواعلية وعندما سألته: «أنت رايح فين يا عم خيرى؟».. نظر لى بفرحة، قائلا: «أنا رايح أشيل شيكارتين رمل علشان ألحق أجيب لقمة للبنات». وبعد أن ودعت «عم خيري» التقيت ب «حمدي» الذي بادرني، قائلاً: «عمرى خمسة وثلاثون عاماً، لدى من الأبناء خمسة، ورثت المهنة عن عمى لأن أبويا مات وأنا عمرى خمسة عشر عاماً، كنت بصرف على أمى وأخواتى البنات، وفى يوم جالى عمى وقالى تعالى اشتغل معايا هاتشيل كام شيكارة رمل ومن ساعتها بقيت هى دى شغلتى وشغلتنا أهم حاجة فيها الصحة، طب نجيب منين الصحة وإحنا مش بناكل لحمة وفراخ زى الناس، أنا بشتغل عشرة أيام فقط فى الشهر وباقى الأيام بدبر نفسى بأستلف من جيرانى أو أصحابى علشان ألاقى أأكل عيالى أنا بتعب قوى ومش بلاقى حد يحس بيا ولا بزمايلى». تركت «حمدى» واتجهت إلى «هشام محيى» الذى يبلغ من العمر 41 عامًا، الذي تحدث من تلقاء نفسه: «أنا عندى 6 أطفال وبأشتغل 4 أيام بس فى الشهر ودخلي في اليوم خمسة عشر جنيهاً وأحياناً أقل من كده، بشيل شيكارتين رمل أو خمس شكاير أو قاصعة زلط وطوب وتراب وأدينا عايشين أنا قاعد فى أوضة تحت بير السلم فى بيت قديم أى لطشة هوا قوية أو أقل زلزال هيوقع البيت على دماغنا وصابرين ومستحملين مهما كان الحمل أكيد مش أصعب من حمل التراب والزلط اللى بنشيلهم وبنقضيها يوم تراب ويوم ملح وكل اللى بحلم بيه إنى بعد تعبى ده ألاقى مقابل حتى لو يومية ثابتة أو شهرية من نقابة تكون خاصة بينا، يا ريت يكون هناك مسئول يحس بهمومنا. قبل أن أتركهم وجدتهم يحيطون بى، قائلين: «الثورة قامت علشان البلد اتنهبت والناس اتظلمت اشترك فيها ابن الغفير وابن الوزير ومازال مستقبلنا مرهون بالرصيف حتى الآن.. فإلى متى يستمر الحال هكذا؟». ومن المؤسف أنه لا توجد في مصر مؤسسة أو أي منظمة نقابية تجمع هؤلاء العمال الذين يفوق عددهم أعداد المنتسبين إلى نقابات عمالية كثيرة.، ولقد عانى كثيراً «عمال الترحيلة» وغيرهم ممن لا يمتهنون - مثلهم - عملاً ثابتاً أثناء ثورة 25 يناير، حين توقفت عجلة الحياة والعمل في مصر تماماً طوال تلك الفترة، ثم حدث بعد ذلك الركود الكبير الذي استمرت تداعياته حتى اليوم، نتيجة اضطراب الأوضاع الاقتصادية والأمنية في مصر، الذي دعا كثير من المستثمرين المصريين والأجانب إلى وقف مشاريعهم حتى تنجلي الأمور وتستقر الأحوال. من جانبه يقول مصدر بنقابة العاملين فى مجال التشييد والبناء: «إن أوضاع عمال التراحيل السيئة لم تتغير بعد الثورة، حيث يعانون من عدم وجود تأمينات اجتماعية أو صحية، إضافة لانعدام الأمان والسلامة المهنية في مواقع العمل».