هناك سؤال يتردد كثيراً كلما جاءت ذكرى رحيل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وهو لماذا عاش رغم رحيله كل هذه السنوات، ومات فن آخرين جاءوا بعده بسنوات، وكثير منهم مازال موجوداً على الساحة، ويعتقد أنه مازال نجماً، وكانت كل الإجابات تصب فى منطقة فن حليم، وتعاونه مع كبار المؤلفين والملحنين ممن أثروا ساحة الغناء العربى، وهذه الإجابة تعد جزءاً من الحقيقة، وليس كلها، نعم عبدالحليم حافظ كان محظوظاً بالمحيطين به من كبار الملحنين، فالموسيقار الكبير محمد الموجى رحمه الله كان رفيق المشوار مع حليم، وكانت ضربة البداية معاً فى أغنية «صافينى مرة» والتى حققت فى بداية غنائها فشلاً ذريعاً وألقت الجماهير عبدالحليم حافظ بالطماطم ثم تحولت بعد ذلك إلى إحدى روائعه التى يحتفى بها الجمهور لأنها كانت شكلاً جديداً على الأغنية وقتها، أيضاً كان من رفقاء عبدالحليم حافظ الموسيقار الكبير كمال الطويل ثم التقى محمد عبدالوهاب الذى ساهم فى نقلات موسيقية، وسينمائية فى حياته سواء بالتلحين أو الإنتاج كما أنه كان شريكاً له فى شركة صوت الفن، ثم التقى بليغ حمدى ومنير مراد وآخرين. هناك جوانب أخرى غير فنية ساهمت فى استمرار ونبوغ عبدالحليم حافظ ورحيل فنانين جاءوا بعده، منها أن صالون عبدالحليم حافظ كان يجتمع فيه كل الكتاب والصحفيين وكبار المثقفين فى ذلك العصر، أما الآن فبعض المطربين الذين جاءوا به فالصالونات الخاصة بهم يجتمع فيها أصحاب الدماغ العالية عشاق نبات البانجو والحشيش والتعميرة لذلك من الطبيعى أن ينهار هؤلاء سريعاً بل إن بعضهم تحول إلى مادة للسخرية. عبدالحليم حافظ، عاش رغم رحيله لأنه كان لا ينكر فضل الآخرين عليه مثل الموجى والطويل وعبدالوهاب وبليغ، وكان صديقاً شخصياً لأسرهم، فهو كان يعشق أن يأكل الملوخية من يد السيدة أم أمين زوجة الراحل محمد الموجى، وأول رحلة لأبناء الموجى لأوروبا الموجى الصغير وأمين كانت على نفقة حليم بعد أن تفوقا فى الدراسة، وكان أيضاً صديقاً لأسرة عبدالوهاب فهو الذى أقام حفلة زواج عفت ابنة الموسيقار الراحل، الآن هناك فنانون ينكرون المحطات الأولى من حياتهم لأن أغلبها يكشف أن هناك أسماءأخرى ساهمت فى نجوميتهم، وظهورهم الأول، وكأن هذا الأمر عار، أو أنهم هبطوا علينا من السماء، رغم أن الكثيرين منهم كانوا يقفون على أبواب الملحنين بالأيام حتى يتعطف عليهم الملحن الكبير ببضع دقائق، بعدها تظل هذه الدقائق هى كل الحكايات مع الأقارب والجيران، ومع ظهور بوادر النجومية يلغى كل هذه الحكايات، بل إن بعضهم ينكرها بشكل يسئ للوسط ككل وليس له فقط. الاعتراف بالجميل كان أهم شىء فى حياة حليم ونجوم جيله فالسيدة أم كلثوم لم تنكر فضل أبوالعلا محمد أو الدكتور أحمد صبرى النجريدى وغيرهما، أيضاً عبدالوهاب لم ينكر فضل أحمد شوقى الذى علمه كل أصول الغناء وبروتوكول التعامل مع الآخرين، كما علمه كيف يتذوق الشعر والموسيقى الغربية الكلاسيكية، الاعتراف بالجميل زاد من أهمية هذه الأسماء. علاقة عبدالحليم حافظ بالإعلام كان يمثل جزءاً مهماً من تكوين شخصيته كان حوله كل رموز الإعلام من الشباب والكبار، هو بطبعه كان إعلامياً من الدرجة الأولى يعرف كيف يتعامل مع الصحافة متى يتحدث، ومع من، ومتى يتوقف؟ وعندما كان يرفض الظهور كان لا يصدم ولا يصطدم، لذلك رحل وبقى حليم النجم الأول فى الصحافة، وفى الفضائيات، أما نجوم الآن فالعلاقة بالصحافة والإعلام تقوم على مبدأ المصلحة ثم المصلحة، فالنجم لا يتصل بالصحفى أو الإعلامى إلا إذا كانت لديه مصلحة أو خبر يود نشره أو نميمة ضد زميل له، بعض نجوم ما بعد حليم لا يردون على الصحفيين الذين تحولوا إلى معدين، لأنهم غالباً ما يقدمون لهم عروضاً بالظهور على الفضائيات بمقابل مادى كبير، وعند الاتفاق على المبلغ ليس هناك مانع أن يمنحه حواراً لجريدته فوق «البيعة»، وليس هناك مانع أن يتضمن الحوار التليفزيونى مناطق شائكة فى حياته، المهم الدولار، بدليل أن أغلب النجوم الذين ظهروا خلال ال30 سنة الماضية أو أكثر بقليل أو أقل باعوا تاريخهم وسيرتهم للفضائيات، وبعضهم كان يحكى أدق تفاصيل حياته حتى لا يخسر حفنة الدولارات، أحد الزملاء المعدين فى إحدى الفضائيات حكى لى أن مطرباً يبدو أسطورة أمام الجميع، كان يفاوضه على الجنيه مقابل الظهور على الفضائية التى يعمل بها، ومطربة أخرى تحدثت فى كل شىء عن حياتها، رغم أنها تبدو هادئة فى أى ظهور لها لكن أمام الدولار كل شىء فى الفنان يتحدث. عبدالحليم حافظ كان قبل الظهور فى الحفلات الموسمية التى كان يلتقى فيها جمهوره سواء شم النسيم «الربيع» أو غيرها كان يقوم بعمل شبه معسكر مع فرقته من أجل حفظ اللحن الجديد، والتأكيد على الألحان القديمة، الآن بعض مطربينا تكون اللقاءات مع الفرق من أجل لف السجائر، لذلك من الطبيعى أن تجد بعضهم مدرجاً اسمه فى عدد من القضايا أو معروفاً عنه فى الوسط عشقه المخدرات. عبدالحليم حافظ كان الفيصل عنده جودة الكلمة واللحن، الآن من الممكن أن تجد مطرباً كبيراً يغنى كلمات دون المستوى لمجرد أن الشاعر أو الملحن منتج لأن الحكاية بالنسبة له بيزنس وزيادة رصيد فى البنك، هذا هو الفارق بين نجم مازال يعيش بفنه رغم مرور 38 سنة على رحيله، وهذا يعنى أن 99٪ من أعماله تجاوزت النصف قرن رغم ذلك مازالت تغنى، ويلتف حولها الناس، الآن عمر الأغنية لأى مطرب لا تتجاوز ال38 دقيقة، وهذا هو الفارق، لماذا عاش حليم رغم الرحيل؟ ولماذا رحل آخرون وهم على قيد حياة؟ تلك هى الحكاية التى سوف تظل تشغل كل المهتمين بالموسيقى والغناء.