مفارقات عديدة، وحقائق مريرة حول التعاون العربى ومقدمات الوحدة العربية التى طال انتظارها ولم تبزع شمسها بعد، تلك الحقائق أوردها الدكتور عودة بطرس عودة فى كتابه «الوحدة العربية هى الحل». لقد صرخ الرجل عبر حروف هذا الكتاب صراخاً لا تقوى عليه امرأة فجعت فى كافة أبنائها، وهو دليل على مدى إخلاص الكاتب واختياره للغة التى يعبر بها، حيث يذكر حجم الصادرات والواردات بين الدول العربية وبعضها البعض، وهو حجم زهيد إذا ما قيس بحجم التبادل ذاته بين العرب وغير العرب، وهو ما دعا الرجل إلى النداء بسوق عربية مشتركة وفق آليات منهجية شاملة الأطر لكافة الدول العربية... وهذا الكتاب له عندى دلالتان، الأولى أن كاتبه قبطى من أبناء مصر العظام، وهو ما يعنى أكبر رد على داعش وغيرهم من أن أقباط مصر يفكرون بلغة القومية لا بلغة الطائفية، ولعل العالم أجمع رأى بأم عينيه ما قاله أقباط مصر عقب الاعتداء الغاشم على فلذات أكبادنا فى ليبيا، وهو ما يعنى وصول الوعى عند أقباط مصر إلى منتهاه، وتعمق الوطنية والقومية فى قلوبهم لتسع نظرتهم المحيط وما يحيط به، لا لتكون قاصرة على الحزبية والطائفية وتلك اللعنات البغيضة التى لا يتقن الظالمون سواها، وهو ما يؤكد أيضاً وحدة هذا الشعب فى سبيكة لا تقبل الانصهار على النار. أما الدلالة الثانية فهى عمق الوعى وقدم النداء بالوحدة العربية، فهذا الكتاب صدر فى عام 1990 فى عمان، أى قبل النكسات المتلاحقة التى مُنيت بها الأمة العربية، لتصبح المطالبة بالقومية والقضاء على الإقليمية أدعى فى ظل التكتلات العالمية، التى من مصلحتها بقاء التشرذم العربى على حاله، بل هم الذين خططوا له فيما سبق، يقول الدكتور عودة ما نصه : «والمحزن أنه بعد التحرر من الاستعمار وارتفاع رايات الاستقلال فى أرجاء الوطن العربى كله، قامت فى كل أجزائه التى صنعتها الإرادات الاستعمارية أنظمة حكم عربية انتهجت سياسات اقليمية مؤداها الحفاظ على الحدود كما ورثتها من الدول الاستعمارية، فمنطقة المشرق العربى على حالها كما رسمتها معاهدة سايكس بيكو، ومنطقة المغرب العربى على حالها كما كانت أيام سيطرة الاستعمار الفرنسى الإيطالى الإسبانى عليها، والأنظمة التى قامت فى هذه الأجزاء التى صنعتها الدول الأوروبية الاستعمارية تتبع سياسة اقليمية على أساس ما ورثته، ولقد أصبحت هذه الأنظمة شديدة الحرص على هذه الإقليمية، وسخرت كل إمكانات الدولة وأجهزة الحكم ومؤسساته لترسيخها وتعميقها فى ذهن ووجدان الإنسان العربى، لتصبح لديه قناعة بأنه ينتمى إلى جزء من الوطن وليس إلى الوطن كله، وأن مصيره مرتبط بهذا الجزء الإقليمى وليس بالوطن القومى، وليس أدل على ذلك لمن يريد أدلة، من أن الصفة الإقليمية هى الصفة الغالبة فلم يعُد الانتماء للعروبة وإنما للكيانات الاقليمية، فهذا موريتانى أو جيبوتي، وذاك عمانى أو لبنانى، وهكذا البقية، ولا أظن أن القوى الطامعة فى الوطن العربى تطمع بأكثر من ذلك، ولا أظن واقعاً يخدم أحلام الصهيونية العالمية ويجعل إسرائيل تبدو قوية مرهوبة الجانب بأكثر من هذا الواقع المؤلم الذى يسود وطننا العربى». كلمات كُتبت بحجم المرارة التى تنغص حياتنا كمفكرين عرب، كأبناء للخليل إبراهيم وإسماعيل وذرية النبوة المباركة، فقد أصبحنا حريصين على الإقليمية والحدود والذاتية أكثر مما حرص الاستعمار ذاته فى سوءات أيامه، وأصبح كل قطر عربى اليوم عاكفاً على همومه، موصداً أبوابه فى وجه أشقائه غير عابئ بهم، والأمثلة كثيرة، ولكن المقام صلح لا عتاب فيه، لأن وحدتنا بحق هى قدرنا، هى إرادة العزيز الحكيم (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ....). والآن، وقد باتت الأخطار تحيط بنا من كل جانب، داعش وسفهاء حلفائها، والإرهاب الداخلى للجماعات المتأسلمة مثل أنصار بيت المقدس وكتائب حلوان وغيرهم، والفكر الرجعى لبعض الفئات التى تظن أن الإسلام دين الإرهاب والقتل، هذه الأخطار الأمنية تجثم على صدورنا من ناحية، ثم أخطار اقتصادية تحاصرنا وتؤرق مضاجعنا من ناحية أخرى، وباتت الحاجة إلى تلك الوحدة أشد إلحاحاً من ذى قبل، فهل يستجيب أحفاد الخليل إبراهيم لنداء الوحدة، وهل يعود وطننا العربى يداً واحدةً ضد الإرهاب والفقر والمرض؟ هل يعى أرباب الحل والعقد فى وطننا الكبير أن الطرق كلها باتت مسدودة إلا من باب تلك الوحدة، فهى سفينة النجاة إذا أردنا النجاة، وفى التاريخ العبرة والآيات لقوم يعقلون.