الذي يلفت الانتباه عند قراءة يوميات الثورة العرابية هو: غموض موقف شيخ الأزهر من الثورة، حيث تضاربت الروايات حول مطالبة الزعيم أحمد عرابى بعزل شيخ الأزهر، أكد البعض أن مطلب عزله كان ضمن المطالب التى رفعها للخديو توفيق فى ميدان عابدين فى 9 سبتمبر 1881، وأكد البعض الآخر أن مطلب عزل شيخ الأزهر لم يكن ضمن هذه المطالب، وأكد فريق ثالث أن الزعيم أحمد عرابي أوعز لبعض المشايخ المساندين له فى الجامع الأزهر إلى الخروج على الشيخ ومضايقته والمطالبة بعزله، ومن ثم أصدر الخديو توفيق أمرا خديويا بعد أيام من موقعة عابدين بعزل شيخ الأزهر، وهو ما يثير عدة أسئلة على قدر كبير من الأهمية وهى: ما هو موقف الزعيم أحمد عرابي من شيخ الأزهر؟، وهل وقعت منافرة بينهما؟، وما هى أسباب هذه الوحشة؟، هل كان مؤيدا لثورة الجيش ضد الخديو؟، هل شارك مع النخب السياسية والعسكرية في صياغة مطالب الأمة؟، لماذا اختفى من الساحة آنذاك؟، هل اختلف مع الزعيم أحمد عرابى؟، هل فضل عدم المشاركة في النزاع السياسي؟، هل كان يحرم قيام الجيش بثورة على ولى الأمر؟، هل كان ضد الخروج على الخديو توفيق بشكل محدد؟، هل لم يشارك لقناعته الفقهية بأن الخديو توفيق لا تنطبق عليه شروط الحاكم الجائر؟، هل كان يرفض تولى الجيش مسئولية إدارة البلاد؟، هل كان مع الشرعية الخديوية ضد شرعية الشعب والنخبة والجيش؟، هل كان موافقا على قيام الخديو باستدعاء الجيش البريطاني لكي يضرب الجيش المصري؟، هل فضل وقوع البلاد تحت الاحتلال مقابل عدم اهتزاز كرس العرش تحت توفيق؟، هل شيخ الأزهر تورط سياسيا وشرعيا في تسهيل دخول الجيش البريطاني البلاد واحتلالها؟، لماذا قبل شيخ الأزهر أن يجلس على كرسي المشيخة في ظل احتلال البلاد وانكسار الجيش المصري؟. غير خفي عن أحد أن هذه الملاحظة قد تدفع القارئ إلى إعادة قراءة يوميات الثورة العرابية مرة أخرى بتأن شديد، لكي يستخلص إجابات تمحو علامات الاستفهام التي قفزت في ذهنه خلال القراءة الأولى، أضعف الإيمان أن يضع يديه على إجابات قد ترضى بعض قناعته. والذي يزيد الأمر غموضا وتعقيدا أن الروايات التي وصلتنا عن يوميات وأحداث الثورة العرابية لا يمكن بأي حال أن نضعها في خانة المسلمات بها، بمعنى أنه من المفترض تصديقها والبناء فوقها دون مراجعتها وتنقيتها وفحصها فى ضوء مصادرها وفترتها الزمنية والبيئة التي رويت فيها والفترة التي أعلنت وخرجت فيها إلى العلانية، فالذي قرأ أحداث الثورة يعلم جيدا أن معظم مصادرها جاءت من خلال شهادة بعض من شاركوا فيها وبعض من عاصروها، وهؤلاء جميعا لا يمكن أن نضعهم في سياق واحد، ولا يمكن كذلك أن ننزه رواياتهم على إطلاقها ونعتمد كل منها بعيدا عن مواقف صاحبها السياسية من الأحداث، أو بعيدا عن الضغوط والظروف الاجتماعية السياسية التي عاش وتعرض لها. كما يجب علينا ونحن نعيد فحص الروايات أن ننتبه لعامل نفسي وزمني على قدر كبير من الأهمية، وهو أسبقية إعلان الشهادة، حيث إن الشهادات التي تنال السبق في الإعلان، بغض النظر عن قيمتها أو حجم مصداقيتها أو تأثرها الأيديولوجي، هذه الشهادات تترك أثرا كبيرا فى الشهادات التالية لها، أو في نفوس الذين لم يكتبوا شهادتهم بعد، فصاحب الشهادة الأولى للواقعة يؤثر بأحكامه إلى حد بعيد على من سيشهدون من بعده، سواء فى بنية الحكاية أو في صياغتها والقاموس المستخدم فيها، ناهيك عن أن شهادته تقوم بمحاصرة وأسر من لم يشهدوا بعد داخل إطار شهادته، وهو ما يدفع من يأتي بعده إلى أن يعيد الرواية الأولى بصياغة جديدة مع بعض إضافات إلى المشهد لا تخرجه من إطار الرواية الأولى، أو انه يحاول تقديم شاهدة تنفى ما جاء في الشهادة الأولى، وفى كلتا الحالتين تقع شهادته فى أسر الشهادة الأولى.