تنتاب عالمنا العربى اليوم أمواج عاتية من الصراعات الأيديولوجية والسياسية التى هى غريبة عن جسد هذا الوطن، وغريبة على ثقافته وتدينه الوسطى وفهمه لمقاصد الشرائع السماوية وإحاطة ذلك كله بسياج آمن من العادات والتقاليد الموروثة التى هى أشد ثباتاً من الجبال الشامخة، والتى أصبحت مضرباً للأمثال فى العالم كله، حيث اشتُهر العرب بالكرامة والكرم، وبالعفة والعفاف، وبالرجولة والشهامة، ونزل القرآن بلسانهم تشريفاً لهم إلى يوم الدين. وهموم الأمة العربية هى مما تشغل مفكرى العرب باختلاف جنسياتهم الإقليمية، وبتجردهم عن بيئتهم المحلية، ليعمقوا نظرتهم لنهضة تلك الأمة مثلما فعل عبدالحميد بن باديس ومالك بن بنى الجزائريان، وتابعهما عبدالوهاب المسيرى ومصطفى النشار المصريان، حيث تجرد الجميع عن الإقليمية، لتشمل نظرتهم عموم هذا الوطن العربى الكبير باعتبار أبنائه جميعاً أبناء أمة واحدة كما وصى القرآن الكريم «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ». والمستقبل العربى، والهموم العربية، والمآزق والمشكلات التى تمر بها أمتنا العربية هى محور اهتمام المفكر الدكتور مصطفى النشار، حيث يرسم خارطة للطريق لتحديد هوية المستقبل العربى فى كتابه «الأورجانون العربى للمستقبل» والذى طبعته الدار المصرية اللبنانية فى مطلع هذا العام، حيث يتألم الرجل لما آلت إليه الأمور فى الدول العربية، رغم الإمكانيات الهائلة التى يتمتع بها هذا الوطن العربى الكبير، ورغم توافر القوى البشرية، إلا أنه مازال يُصنف ضمن العالم الثالث، وكأنه بقصد أو بغير قصد، هناك من يتعمد صناعة التخلف عن ركب الأمم فى هذا الوطن. ويُعزى الدكتور النشار أسباب ذاك التخلف وعوائق التقدم على مدار القرنين الماضيين فى وطننا العربى إلى عدة أسباب، من أهمها، غياب الإرادة الجمعية للتغيير نحو الأفضل وانهيار سلم القيم العربية التى اشتُهر بها العرب جراء مخطط العولمة الذى سقطت فى هوته جميع القيم، ثم غياب الثقافة العلمية التى تؤسس للقوانين والنظريات وفق أسس علمية وخطط مدروسة، ثم غلبة الأقوال على الأفعال، بل لعلنا نصل إلى حد كثرة الأقوال وندرة الأفعال، وانتشار تلك الثقافة المزرية بين أبناء وطننا العربى، وهو ما يُفضى بالتبعية إلى إهدار الطاقات المبدعة لدى الشباب وعرقلة حركة الأجيال، وبالتبعية أيضاً انتشار السلبية الممقوتة تجاه الوقت، وإهداره وعدم احترام كل لحظة باعتبارها عمراً فارقاً فى حياة الشعوب، ثم الطامة الكبرى وهى اهمال اللغة العربية باعتبارها لغة قومية فضلها الله على كل لغات العالم، واختار القرآن لينزل بحرفها ولسانها، ولتحل محلها لغات أخرى تقوم بالترسيخ لثقافات مغايرة تماماً للثقافة العربية ذات الأصول الإسلامية. ثم يلفت الكتاب إلى عاملين آخرين من عوامل تخلف الأمة العربية، وهما تدنى مكانة المفكرين والعلماء العرب، ولعل ذلك هو مكمن الخطورة الحقيقية، يقول الدكتور النشار «ولعل من أهم الأخطاء والأمراض التى نعانى منها وتزيد من تخلفنا تدنى مكانة المفكرين والعلماء العرب عكس ما يحدث فى كل دول العالم، فمن المعروف فى كل دول العالم المتقدم أن الفكر هو الذى يقود المجتمع إلى التقدم، وأن المفكرين هم قادة يصنعون بآرائهم وإبداعاتهم الطريق إلى المستقبل، وأن مجتمعاتهم تتفاعل مع هذه الآراء وتلك الإبداعات بإيجابية «ولعل تلك الآفة هى سر صناعة التخلف فى وطننا العربى الكبير. أما العامل الآخر، فهو الذى لأجله قامت ثورتان متتالتان، وهو غياب العدالة، وهو ما يفقد الإحساس بقيمة المواطن داخل وطنه ويؤدى بالتبعية إلى فقدان النظم التى تقوم بالقسط والعدل بين الجميع. إن تلك الآفات إجمالاً ليست توصيفاً بقدر ما هى بمثابة دق ناقوس الخطر لتستفيق هذه الأمة وتستدعى عوامل نهضتها من جديد والتى يمحورها الدكتور النشار فى ثلاث دعائم رئيسية، وهى الارتقاء بالنظم التعليمية بما فى ذلك إحداث نهضة حقيقية بالبحث العلمى وتحويلها من النظرية إلى التطبيق، ليتحول مجتمعنا العربى إلى مجتمع اقتصاد المعرفة بالاصطلاح الحديث، ثم إصلاح وتطوير الخطاب الدينى ليفى بمقاصد الشريعة فى ضوء وسطية الإسلام التى لن يشادها أحد إلا غلبته، ثم تحقيق رؤية موحدة تكون قادرة على صناعة نهضة حقيقية اقتصادياً وسياسياً، وتلك هى أطر البناء ودعائم النجاح لأى أمة تريد إعادة بناء نفسها، لاسيما إذا كانت تلك الأمة بحجم أمتنا العربية حضارة وتراثاً، وماضياً يضرب بالجذور فى كبد التاريخ، وحاضر لم يعدم الإمكانيات. إن كتاب «الأورجانون العربى للمستقبل» يحمل بين دفتيه الأزمة والحلول، فهو يقدم تشخيصاً رائعاً لجوهر المرض الذى تفشى فى الجسد العربى، ثم يصف الدواء الناجع لتلك الأمراض المزمنة، فى لفتة كريمة من مؤلفه لنشر ثقافة الأمة الواحدة الواعدة، ولاستعادة ماض تليد قد تأخرت بوادر ثماره، وعصفت به المحن، ويسألونك متى هو، قل عسى أن يكون قريباً.