لأنه طفل.. لا حول له ولا قوة.. لأنه يتيم.. لا يجد حضنا يحميه ويرعاه ولأنه معاق. ينتظره مصير مجهول.. قد يكون مفزعا!! ولكن رغم كل ذلك قد تتسرب أشعة الشمس المشرقة لتبعث نورها وسط الغيوم.. ما أبهاها.. حين تضيء!! تبدد الأحزان وتكشف اللآلئ عن بريقها في عيني «صغير» ترتوي أوراق الورد الرقيقة بقطرات الندي.. تتفتح وتنطلق وتزغرد الفرحة علي شفتيه الزهريتين.. عندما تفتح ذراعيك لطفل يتيم معاق كأنك تحتوي الدنيا.. تلامس قلبم أنفاسه فترتخي أجفان الصغير.. وتسبح في بحور من أحلام الملائكة. ربما شاهد أمه في غمضة عين وأنا أضمه.. ربما تمني أن أكون أنا هي.. لم أسأله سؤالا لا محل له.. هل أشبهها؟ هو لم يشاهدها قط.. كان عمره في الدنيا أياما.. عندما فارقته بكامل إرادتها أو بغير إرادتها «مايهمنيش اسمك.. مايهميش عنوانك.. انت طفلي الآن وأنا أمنحك أمومة لا نهائية.. ارتوي من حناني يا ولدي.. أريد أن أري الورود في وجنتيك يا حبيبي. هل يمكن أن يصدر كل هذا الحب من فتيات لم يجربن الأمومة.. «صبايا» كأعواد رياحين تنشر العطر في الفردوس. نعم.. رأيتهن في هذه الدار التي لا تشتبه أي دار رعاية طفل زرتها من قبل الأمهات البديلات «الشابات» فيها مشتقات من اسمها «خضر كالسندس»، رقيقات كالحرير، رأيت كل واحدة منهن تحتوي 7 أطفال فمن حرمهم الله من آبائهم وكانوا في المهد صغارا عوضهم الله عنهم بهؤلاء الأمهات الصغيرات قلب كل واحدة منهن يسع أطفال الدنيا. المؤسسة قسمت نفسها الي ثلاثة دور كل دار اختصت بمرحلة عمرية من أبنائها من الأيتام ذوي الاحتياجات الخاصة، وقالت لي ولاء جمال «مشرفة» إحدي هذه الدور إن الأطفال مقسمون حسب العمر وحسب درجة الإعاقة، فهناك دار «لحديثي الولادة والرضع حتي 5 سنوات» وفيها بنات وأولاد والدار الثانية من سن 5 سنوات الي 11 سنة وهؤلاء إعاقاتهم حركية وبصرية وبطء تعلم.. صعوبات في الكلام، مشكلات عقلية. وهناك قسم أو دار للإعاقات الشديدة جدا وأطفال غير قادرين علي الحركة أو خدمة أنفسهم وبنات من سن 5 سنوات لأكثر ولدينا دار للبنات والأولاد للعمر الأكبر وأبناء الدار يتلقون كل أنواع الرعاية الأسرية ويلتحقون بالمدرسة ويدرسون نفس المناهج التعليمية ومناهج إضافية تناسب حالاتهم فمدرستنا لديها فصول بمدارس تابعة لوزارة التربية والتعليم. الأطفال في الفرع الرئيسي للدار يتمتعون بالإقامة الكاملة والرعاية الصحية وجلسات التأهيل النفسي وجلسات التخاطب فضلا عن التحاقهم بالمدارس ومتابعتهم من قبل أمهاتهم بالدار. ولاء، بسمة، سمر، ومي وغيرهن من الفتيات كلهن في العشرينيات لكن لكل واحدة منهن قلب كبير وعقل واع تحسه في التفاف الأطفال كل حول أمه التي ترعاه تربويا وتعليميا وهناك العاملات يمارسن دورا لا يقل أهمية في إتمام الرعاية الكاملة وهو ما تلمسه في أجواء الحب فضلا عن النظام والنظافة والترتيب، فهناك وقت للتعليم ووقت للرحلات والترفيه وأهمية كبري توليها الأمهات للتأهيل النفسي والحركي. مدهش من المدهش جدا أنك لا تلحظ إعاقات الأطفال إلا عندما تستوضح الأمر، فعندما شاهدت مهندا وهو طفل صغير لا يتعدي عمره 5 سنوات.. تجده طليق اللسان، حاد الذكاء، سألته: انت في سنة كام؟ في كي چي ون، يعني تعرف ألف باء، هنا فوجئت أن مهندا انطلق في نطق الحروف الأبجدية مع ذكر كلمة مع كل حرف. مهند تلميذ في مدرسة الفردوس.. يحلم كأي طفل بالمستقبل، نفسك تطلع إيه؟ إشارة. يعني إيه؟ ردت «ماما سمر» نفسه يطلع عسكري مرور. ضحك الطفل الأسمر الجميل وقال: أيوه أعمل ايدي كده العربيات تمشي وتسمع كلامي ثم شرح بكل دقة معاني إشارات المرور وهنا زادت دهشتي ولمحتها بالأم المشرفة وقالت هو حاد الذكاء ولدينا أطفال كثيرون متفوقون في الدراسة ويحفظون القرآن.. ولدينا من يعانون من صعوبات أو بطء في التعلم. وهناك إعاقات أخري.. ولم تشأ الأم المشرفة أن يلمح الأطفال أننا نتحدث عن إعاقتهم خاصة أنهم التفوا حولنا في مرح وضحك كأي أطفال في الدنيا. ضحك سعيد ذو ال8 سنوات عندما سألته عن أمنيته في المستقبل وقال: نفسي أطير.. يعني أبقي طيار مدني، سعيد يعاني من إعاقة بصرية بسيطة لكن لم تمنعه من الأحلام. أما باسم فيعاني من اهتزاز بالقرنية ويتمني أن يكون ضابطا كبيرا يحمي مصر، وغريب أيضا يري نفسه طيارا بالمستقبل ولن يمنعه ارتداؤه لسماعات الأذن أما يوسف الذي يخضع لبرنامج خاص لعلاج السمنة المفرطة بعد أن تسببت من قبل في إعاقته عن الحركة ويقول: أنا في سنة خامسة وأحلي حاجة لما أروح أصلي في الجامع مع اخوتي في الدار، وهنا أشار الأطفال ل«ماما مي» وماما ولاء كأنهم يذكرن بميعاد الرحلة القادمة.. لكني لم أستطع منع دهشتي فوضحت وبدارتني «ولاء» قائلة: هم ينعمون بكل الحقوق ونهتم جدا بالترفيه والرياضة كأعضاء في أحد نوادي القوات المسلحة يتعلمون السباحة وكرة القدم وكرة السلة كل حسب قدراه وامكانياته كما أننا نهتم بتعليمهم أصول دينهم من خلال شيوخ متخصصين ومنهم من يحفظ القرآن ويصلون جماعة في جامع الدار ويكونون في قمة السعادة. وقت الجد كأي أم نادت بسمة علي أولادها لاستذكار دروسهم.. والنظام.. واجب فالكتب في مواضعها.. وكل ابن يذاكر بمساعدة أمه ويسأل عما لا يعرفه.. ثم يكافئ الملتزم، كنت حريصة علي أن أسأل.. هل هناك مواعيد وقواعد صارمة للطعام فأجابت لا: هنا أجواء بيت بكل معني الكلمة وليس معسكرا.. والطعام متاح في أي وقت وهناك ثلاجة بها كل ما يحتاجونه ونحن حريصون أيضا علي توفير رعاية طبية لأولادنا فهناك مشرفة أدوية وطبيبة مقيمة ويخضع الأولاد للكشف الدوري، سألت ولاء عن نظام التعليم في الدار: فقالت لدينا أطفال إعاقتهم لا تمنع من تعلميهم وهناك من يخضعون لبرامج تعليم محددة حسب احتياجاتهم الخاصة ولا نجد أي صعوبة حتي بعد المرحلة الإعدادية نتيجة بعضهم الي التعليم الفني والثانوي العام ولدينا «بنات» بالفعل في المرحلة الثانوية لكننا نوفر لهم التعليم «منازل» ونوفر لهم المدرسين في الدار.. لماذا؟ لضمان رعايتهم وحتي لا يتعرضوا لأي مضايقات. مرحلة السؤال المشرفات أو الأمهات بالدار تحدثون معي بصعوبة وحساسية شديدة جدا «احترمتها وقدرتها» فيما يخص مشكلات الأولاد في مرحلة متقدمة يكون فيها السؤال ملحا عن آبائهم.. وإزاء تحفظ الفتيات اضطررن للاعتماد علي استتناج الإجابات من وسط كلمات قليلات: أولا: البنات اليتيمات هن التحدي الأكبر للأمهات البديلات، خاصة في فترة المراهقة وتأكدت أن سمر ومي وبسمة وغيرهن من الأمهات الصغيرات تدربن علي مصاحبة بناتهن والتعامل مع ردة فعل أي بنت عندما تسأل عن أمها أو أبيها.. إحدي المشرفات قالت لي والدموع تترقرق في عينيها «أرجوك.. نحن ننسي هذا الواقع ونضع واقعا أفضل لهؤلاء الأبرياء ونعمل علي تحقيقه فعلا.. ونحن نعوضهن بصدق وضمير ونعلمهن كأي أم تعلم ابنتها كيف تحمي نفسي ونعزز ثقتها بذاتها. ليست وظيفة لمحت أما رقيقة حانية تتحسس بيديها جبين طفلها وقد ارتفعت درجة حرارته.. لم ينهض اليوم ليلعب مع مهند وغريب ويوسف وأدهم،، كان يتأوه في سريره والأم تضع له «الكمادات» الباردة لتهدئ سخونته فيما تستدعي أم أخري الطبيبة. فيم تعمل صباح ووفاء علي إعداد الطعام المناسب.. من الواضح أن الولد أخذ شوية برد، ومن الأوضح أننا هنا أمام حالة إنسانية غاية في العلو والسمو والارتفاع، وهنا أيضا فهمت رد بسمة عندما سألتها عن سبب عشقها للوظيفة، قالت: ارتبطنا بيهم، وكان رد مي: ماكنتش أعرف يعني إيه وليه اتعلقت بيهم.. اغلبنا مقيمات بشكل كامل مع اولادنا، يعني حياتنا معاهم وبيهم،، أما ولاء فكان ردها يصعب في اتجاهي مباشرة عندما قالت: لما تقعدي معاهم هتعرفي ليه حبيناهم وازاي ارتبطنا بيهم. وقد ايه الأمومة مش مجرد.. «انجاب» لكنها سر وسحر. العطاء هنا نبع لا ينضب والمسئولون بقيادة الدكتورة أمل عبدالرحمن رئيس مجلس الإدارة والأستاذ بجامعة عين شمس، الكل يعمل علي استيعاب العدد الأكبر من هؤلاء الأطفال من الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، صحيح أن المسألة قائمة علي التبرعات بالكامل، إلا أن الجميع لا يألون جهدا في الترحيب بأي طفل يحتاج الي الدار لدرجة أن حديقة المقر الرئيسي تم تقفيلها وإعدادها لاستيعاب عدد أكبر من الأطفال.. ويحاول الجميع قدر استطاعته توفير احتياجات أبناء الدار وهناك أهل الخير الذين يساعدون الأولاد بتقديم العون المادي والعيني حتي وإن كان في شكل وجبات صحيح أن مسألة التبرعات تقلصت خاصة بعد ثورة 25 يناير إلا أن البركة تملأ المكان لأن الخير فيه وصحيح ان احتياجات الأطفال المعاقين إعاقات شديدة مكلفة جدا.. لكن الحب يمنح الكثير من الستر ويضفي البهجة علي الوجوه.