الإسلام دين الحوار وقبول الآخر، لا دين الانغلاق ورفض الآخر، دين الرأى والرأى الآخر، لا دين الصنمية والتحجر الفكرى والغطرسة العقلية، بل هو دين قبول هذا الآخر ومقارعة الحجة بالحجة فى إطار أخلاقى لا يمنع الجدل، ولكنه فقط يأمر بأحسن الجدل (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ويضرب لنا القرآن الكريم الأمثلة العديدة على لغة الحوار مفهوماً واجراء، من ذلك مثلاً حوار سيدنا موسى مع ربه، ذاك الحوار الشيق الذى تطرب له الآذان (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى {17} قَالَ هِيَ عَصَايَ) كان الرد يكفى إلى هذا الحد، ولكنه استطرد قائلاً (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) موسى يستطرد فى كلامه، والله برحمته يسمع، لم يقاطعه، لم يأمره بالاقتصاد فى الكلام، لم يُعنفه على إطالته التوصيف من غير داع، بل استمع إليه للنهاية ليدلل لنا على أهمية مهارة الاستماع، تلك المهارة التى هى من مكارم الأخلاق، والتى هى تفتح القلوب والأفئدة بين المتحاورين، ليُعلمنا سبحانه بذلك أدب الحوار وقبول الآخر. ثم انظر إلى حوار الأنبياء مع أقوامهم، إبراهيم عليه السلام مع أبيه، ذاك الحوار الطويل الذى ذكره القرآن مفصلاً فى سورة مريم، ثم مختصراً فى سور أخرى، ثم حوار لوط مع قومه، وحوار عيسى مع الحواريين، ثم حواره الرائع مع الله رب العالمين فى نهاية سورة المائدة، ثم حوار الملحدين مع الأنبياء مثل حوار النمرود الطويل مع الخليل إبراهيم (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة 258). يبقى التساؤل الآن، لماذا ذكر الله كل هذه الأمثلة فى كتابه العزيز الذى لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ما ذكرها إلا ليُعلمنا أن الحوار هو السبيل الأوحد لحل المشكلات، وهو السبيل الأوحد للتواصل والتفاهم بين بعضننا البعض، فبدون الحوار لا تواصل ولا تفاهم، وبدونهما فلا حياة بالأساس. ويحث الإسلام على الحوار البنَّاء، الحوار القائم على الكلمة الطيبة وحسن الخلق، وليس حوار الصراع أو التصادم أو العنف، فيضرب الله المثل لتلك الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة الأصلية (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24}تؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم 25،24)، فالكلمة الطيبة تفتح القلوب وترقق الأفئدة وتضع أطراً للتواصل عبر بوابة المحبة والسلام والاطمئنان النفسى للآخر. والنبى الكريم (ص)، يحذرنا من شر الكلمة المستطير، الكلمة التى تخرج فى الهواء دون أن يأبه لها صاحبها، فيقول « إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً فيهوى بها فى النار سبعين خريفاً» . وعندما سأله سيدنا معاذ: أومؤاخذون بما تقوله ألسنتنا يا رسول الله، فقال النبى الكريم «ص» «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم». إن من أخطر أمراضنا الاجتماعية اليوم غياب لغة الحوار وقبول الآخر، وانتشار التخوين والشك والريبة بسبب وبدون سبب، والإسلام ليس دين الشك، لم يأمر بالشك لذات الشك، بل الشك للوصول إلى اليقين، فيما يُعرف بمبدأ «الحذر»، والحذر واجب، لكن المبالغة فى الشك فى الجميع مرض يفتك بمجتمعاتنا وقد يودى بوجودنا ذاته. يقول الدكتور مصطفى النشار فى كتابه: (ما بعد العولمة): «والحقيقة التى ينبغى أن ندركها جميعاً هى أن علامة صحة أى مجتمع والدلالة الأولى على تقدمه وتفوقه الحضارى هى إيمان أفراده بأهمية الحوار وتعدد الآراء كأساس إيجابى بناء يصل الجميع بموجبه إلى التماس أفضل الطرق للنهضة فى كافة مجالات الحياة، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية». وغياب الحوار بيننا دلالة خطيرة على وقوعنا فى مآزق فكرية واجتماعية تعصف بوحدة المجتمع، وهو ما يؤدى إلى نتائج كارثية مثل عدم قبول الآخر والرفض الدائم للرأى الآخر، واندثار الثقة بين أفراد المجتمع وتفكك العلاقات الاجتماعية وغيرها من الأمراض التى يتسبب فيها بطريقة مباشرة غياب الحوار. إن جميع مشكلاتنا اليوم يمكن حلها، فقط إذا توافرت سبل التواصل عبر الحوار المخلص والبنَّاء، الحوار الذى يبنى ولا يهدم، يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يمزق، الحوار الذى تغزوه الكلمة الطيبة وتعلوه مكارم الأخلاق ويسع فيه الجميع للجميع، لأجل صنع مستقبل باتت الأخطار تهدده من كل جانب، وما أرانى إلا منادياً بأعلى صوتى، ولكم فى الحوار حياة يا أولى الألباب. دكتور. محمد ممدوح عبد المجيد