فى بداية القرن الماضى بدأت الحكومات الإسلامية والعربية بإرسال بعثات تعليمية إلى فرنسا وانجلترا، بعد فترة عاد المبعوثون بالشهادات والدرجات العلمية، كما عادوا بما أثار حفيظة أهاليهم من أبناء الوطن، عادوا يرتدون الملابس التى يترديها الفرنجه، البنطلون والجاكت والقميص والبرنيطة والكاب، كما عادوا بما يسمى البيجاما يلبسونها فى المنزل، وتركوا الزى الوطنى لبلدانهم: الجلباب والطربوش وغيرهما، وهو ما شغل العامة والنخب وجعلهم يتساءلون: هل هذا الزى يتناسب والشريعة الإسلامية؟، الذين يرتدون البنطلون والكاب والبيجاما والقميص من أهل ديانة أخرى، فهل التشبه بهم يعد خروجاً على الملة الإسلامية؟، ما هو حكم مرتدى ملابس النصارى واليهود؟. أقدم سؤالاً عثرنا عليه فى هذه القضية جاء فى فتاوى دار الإفتاء المصرية، ويعود لعام 1903، وقد وجه إلى الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية آنذاك، ونظن أن هناك أسئلة أقدم من ذلك لكننا لم نعثر عليها، خاصة أن المصريين عرفوا القميص والبنطلون والبرنيطة وغيرها من خلال أعضاء الحملة الفرنسية التى احتلت مصر، وكذلك من خلال الأجانب الذين عملوا فى مصر كتجار وموظفين فى عهد أسرة محمد على، وانتشارهم فى فترة احتلال مصر من قبل الانجليز بعد هزيمة جيش أحمد عرابى سنة 1882، سئل الإمام من بعض المسلمين فى بلدة ترنسفال(تتبع حاليا جنوب إفريقية): يوجد أفراد فى بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعودة الفوائد عليهم هل يجوز ذلك؟. أجاب الإمام: أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول فى دين غيره فلا يعد مكفرا. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرأة. الشيخ رشيد رضا تلقى هو الآخر سؤالا من القارئ (ر.ع) من القاهرة، نشره فى مجلة الرسالة، قال فيه (ر.ع): إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في اللباس (كالبرنيطة والبنطلون )، فهل يصح إسلامهم أم لا ؟ فإن قلتم: لا يصح؛ فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم : يصح إسلامهم، ويقرون على لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا ؟، وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها، وأمر آخر وهو أَننَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج(بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟، هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون بالشهادتين فيه, وورد في الحديث : (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون: لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة)، فما رأيكم في هذا كله؟، نرجو الجواب ولكم الثواب . أجاب عليه الشيخ رشيد بقوله: لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة ولا في أقوال الأئمة على اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط, قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس من لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار زيًّا وألزمنا به ، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي.