- قبل أن تقرأ: كلما اشتد المرض علي «روز اليوسف» تذكرت الآباء العظام لهذه المؤسسة العريقة.. ومثلما فاجأنا الكاتب الكبير يوسف ادريس رائد القصة العربية القصيرة «ذات مقال» بمحاورته المدهشة مع تمثال الرائد الاقتصادي طلعت حرب باشا، فإنني - وكعادتي وأنا ذاهب للقاء زميلي الكاتب الصديق محمد الصباغ - حانت مني التفاتة - وانحناءة - لرائدة الصحافة السيدة فاطمة اليوسف مؤسسة هذه الدار العريقة.. التي تتصدر صورتها بهوا فقد الكثير من الألق والوهج بمرور السنين وتعاقب الأزمنة منذ رحيل آخر العمالقة وهو الكاتب الفنان عبدالرحمن الشرقاوي. - هذه المرة نظرت في «بورتريه فاطمة اليوسف.. فاذا بعينيها تتحينان الفرصة للحديث، وكأنها تعرف رغم مرور كل هذه السنوات علي رحيلها أنني معجب بتجربتها التي لم تتكرر! - قالت لي سيدة المسرح التي أصبحت فيما بعد سيدة الصحافة العربية: كيف يمكن أن تتركوا روز اليوسف لكل هذا «الموات»؟ كيف تتخلون عن هذا البيت الذي احتضنكم ورعاكم وألهب خيالكم وصقل مواهبكم وعلمكم فنون ومهارات العمل الصحفي، بما يمكنكم من العمل في أي موقع وأي صحيفة وفي أي قطر بكفاءة؟ - الاجابة صعبة ياسيدتي ومستحيلة، فنحن لسنا في زمن أحمد بهاء الدين أو عبدالرحمن الشرقاوي أو حسن فؤاد أو صلاح حافظ.. أو حتي زمن عادل حمودة (الذي اجبر علي ترك موقعه كنائب لرئيس تحرير «روزا» ونقل إلي الأهرام.. ليهبط التوزيع - الذي قفز علي يديه إلي سبعين ألفا - بعد ذلك إلي أدني مستوياته! - مدينة «روز» اليوم بأكثر من مليار جنيه !! ومنذ أن كان محمد الصباغ يتولي ادارتها في فترة ما بعد الثورة (خلفا لكرم جبر) وحتي تعيين محمد جمال، وعبد العزيز شوربجي فإن المرتبات كانت - ولاتزال - تمثل أزمة كل شهر.. فالمؤسسة مدينة ومفلسة وغير قادرة علي جلب مداخيل إضافية لزيادة الموارد.. مع أن بها جيشا من المهنيين والمبدعين والرسامين والكتاب، تم التفريط فيهم عبر السنين، وآخرهم الكاتب النبيل شفيق أحمد علي! - أسوأ ما في الموضوع أنه لم يعد هنالك «سفراء» لروز اليوسف، لا عند الدولة ولا عند القراء.. لم يعد هناك عبدالرحمن الشرقاوي بقيمته وقامته وصداقته للسادات، فيستطيع المحافظة علي وجود روزا قوية قادرة لا عاجزة ومنكفئة.. لم يعد هناك صلاح حافظ.. (في عهده زاد توزيع روزا إلي عشرات الآلاف، وطبعت طبعات من العدد الذي انحازت فيه روزا - صديقة السادات - إلي الشعب.. وكان يعالج «انتفاضة يناير 77»، حيث صدرت المجلة وعنوانها الرئيسي يقول: «الحكومة أشعلت الحريق والسادات أطفأه»! - لم تكن هذه هي قيمة « صلاح حافظ» فقط.. لقد حاورته علي مدي شهر، وسجلت معه أكثر من 20 ساعة، وبعد أن أعددتها ودفعت بها لجريدة الأنباء فإن مدير تحريرها الفذ يحيي حمزة كان له رأي في «النشر».. فلم تر الحلقات النور، كما أن حظا عاثرا صادفني حينما تمت سرقة شقتي, وسطا اللص علي الكاسيت والكاميرا وشرائط التسجيل وعبثاً حاولت الكتابة من الذاكرة، لكني أشهد أن ذاكرة الأستاذ الثمانيني محمد حسنين هيكل تفوقني، حتي وأنا ابن الثلاثين وقتها. - قيمة صلاح حافظ كمنت في «سحره» الطاغي، المتجلي في كلماته المرصعة بالمعاني والنابضة بالحياة والتي تتحرك بفرح وحبور وترقص بألم ودموع وتضحك بحزن نبيل من القلوب، فأثرت علي كل تلامذته الموهوبين، الذين عملوا معه وفي مقدمتهم شفيق علي وعادل حمودة.. ومن لم يعملوا معه مباشرة. - وعادل حمودة هو آخر سفراء روزا العظام.. كان يمثل حلما بامتداد واستمرار أجيال العمالقة، لكن مبارك - والجنزوري - تآمرا علي تجربته، وكانت مقدرة ومرموقة بحق، فقد قفز بتوزيع روزا قفزا لافتا ومثيرا للاحقاد والحسد..كلنا يتذكر تجربته.. حيث لكل أسبوع خبطاته.. ولكل حوار مشكلاته ولكل مقال ازماته، ولكل خبر «مكالماته» واحالاته إلي النيابة والمحاكم المختصة! - هؤلاء السفراء انقرضوا تماما، مثلما انقرض العمالقة في مصر بفعل الفقدان والرحيل أو بالغياب القسري أو بالتغييب المشين، وكان عصر مبارك مشينا في هذا الجانب الي اقصي حد ممكن، فلم يسمح أبداً لأقزامه بأن يخشوا علي أنفسهم من وجود «العماليق»، فقد كفاهم شر مواجهتهم بإهالة التراب عليهم أحياء.. وحرمهم من خدمة بلادهم وحرم الوطن منهم.. فشاخ واصبح علي هذا النحو الذي نعرفه كلنا! - في روزا الآن صحفي اقتصادي يرأس تحريرها هو ابراهيم خليل (أكد لنا أنه نجح في زيادة المطبوع والموزع بنحو ألفي نسخة) ومحررة عسكرية (تحمل الدكتوراه من أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية!) فيما يحمل راية صلاح جاهين وحسن فؤاد ومفيد فوزي ورءوف توفيق في معشوقتي وبيتي الأول مجلة «صباح الخير» الشاعر الجميل جمال بخيت، ولكن ماذا يفعل هؤلاء بمفردهم في ظل هذه الأوضاع الصحفية المأساوية من الاستدانة إلي الافلاس ومن غياب المواهب والأساتذة إلي تغييبهم بقوانين سن الستين المشينة، إلي ظهور اجيال جديدة في المهنة لاتعرف رائحة العرق والكفاح وطعم الصبر والدموع! - بعد أن قرأت: لو ان صلاح حافظ.. الفنان.. صاحب الكلمة الرشيقة.. والمعجون بماء الصحافة كان حيا، لكاشفنا بأسباب «ترنح» المؤسسة علي هذا النحو.. ولربما افصح عنها في احدى مقالاته ضمن السلسلة التى اشتهرت بعنوان «دبرنا ياوزير»!