وسط هذا الثراء من العناوين للكتب التى تغزوك كل يوم فى عاصمة النور باريس، وتصيبك بحالة دوار بأيها تبدأ، جاء كتاب الرأسمالية في القرن الحادى والعشرين للاقتصادى الفرنسى توماس بيكيتى (T.Piketty)، والذى كان بمثابة الثورة الفكرية فى تلك النوعية من الكتب على مستوى العالم، وشدتنى إليه تلك المناقشات التى نعيش فيها ليل نهار فى مصر عن الحد الأدنى للأجور، والتى غالباً لا نخرج بأى رؤية واضحة المعالم للمشكلة، إلى جانب وجهة نظر عميقة لبيكيتى ومؤلمة فى ذات الوقت لحالة اللا مساواة في المجتمع حتى فى الولاياتالمتحدة نفسها والعديد من المجتمعات الأوروبية وهى تفوق ما كانت فيه إبان القرن التاسع عشر، فى درجة نظرتها القاسية للفقير ففي القرن التاسع عشر كان يفسر الثراء الفاحش على أنه توارث الأجيال للثروات. أما الآن فالتفسير أن سببه عبقرية الثرى وقدراته العقلية الفذة، وبالتالى الفقراء هم سلة من الأغبياء والكسالى ولا مجال للكلام عن عدم تكافؤ الفرص والمساواة واستغلال النفوذ وبالتالى الفقير يستحق ما هو فيه من فقر، لأسباب تتعلق بصفاته الشخصية! وربما هذا ما يفسر حالة الهجوم التى لم تتوقف، على الكتاب وخاصة بعدما صدرت منه نسخته الإنجليزية، واحتل سريعًا قائمة الكتب الأعلى مبيعًا في أوروبا وأمريكا على غير عادة كتب الاقتصاد الأكاديمية، وكانت التهمة سريعة التجهيز أن الكاتب معتنق للماركسية، بل ويهدد النظام الرأسمالي العالمي، دونما أن يبذل منتقدوه مجهوداً نقدياً لأفكار الكتاب والبيانات الواردة فيه، وما استنتجه الكاتب منها، وعلى رأسها المكافآت والمرتبات الخيالية التى يحصل عليها المديرون نتيجة زيادة الإنتاج والأرباح، دون أن تكون هناك طريقة حقيقية لقياس «إنتاجية» هؤلاء المديرين والرؤساء الكبار، وما هو الشىء الذى قاموا هم به دون غيرهم للاستيلاء على تلك الأموال (وهذا هو بيت القصيد لما يحدث فى مصر الآن). وينطلق المؤلف من الاتجاهات الاقتصادية السائدة في العقود الأخيرة، بهدف رسم صورة للتوقعات الغالبة في القرن الواحد والعشرين، من خلال دراسة موثقة بالإحصاءات للنمو الاقتصادي الغربي على مدى القرون الثلاثة الماضية تصل إلى نتائج مغايرة، بل معاكسة للتوقعات الإيجابية التي حملتها كتابات المؤرخ الاقتصادي الأمريكي الأكثر شهرة في القرن العشرين سيمون كوزنتس Kuznets، والتي تغذي آمال الكثير من الاقتصاديين. وللأسف مع تباطؤ النمو الاقتصادي والسكاني، في بلدان آسيا وأفريقيا ستزيد الهوة بين الفقراء والاغنياء مع تراجع أجور الطبقات العاملة التي لا تملك مواجهة الارتفاع المستمر المتوقع في الإيجارات وأسعار السكن من خلال احتكار عشرة في المائة من السكان ملكية الثروة الاقتصادية. وخاصة فى افريقيا التى تعد نموذجاً صارخاً للتدهور الاقتصادي، لأن البنية الاجتماعية والسياسية لدولها وشعوبها تساعد على ذلك. وإذا أردت أن تعرف لماذا هذا التناحر على الاستيلاء على أفريقيا فإن بيكيتى يوضح لك أن القارة الوحيدة التي دخلها القومي أقل من قيمة منتجاتها ومحاصيلها هي أفريقيا، حيث يلحظ بيكيتي أن جزءاً مهماً من رأس المال العامل في دولها أجنبي، أي أن عائداته لا تعود إلى المجتمعات الأفريقية بل إلى دول المستثمرين الأجانب. هذا هو الاتجاه الغالب على اقتصادات أفريقيا اليوم، حيث يرى بيكيتي: «إنه منذ عام 1970 يُظهر ميزان المدفوعات في الدول الأفريقية أن دخل الأفارقة هو بنسبة حوالى خمسة في المائة أقل من قيمة إنتاجهم بالنسبة إلى القارة ككل (وحوالى 10 في المائة أقل في بلدان بعينها». والمثير للجدل أن بيكيتي يرى أن الأثرياء في وضع يسمح لهم بالمخاطرة بمدخراتهم لمقدرتهم على تجنيد أفضل مديري الاستثمار وخبراء التمويل، ما يتيح لهم الحصول على عائدات أفضل من عائدات المدخرين من الطبقة الوسطى. وهم، خلافا للمدخرين من الطبقة الوسطى، يميلون إلى إعادة استثمار دخلهم الاستثماري كل عام بدلاً من إنفاقه. ويشير بيكيتى إلى أن البؤس الاقتصادي لا يمكن تفادي عواقبه المدمرة إلا بالتخلي عن جزء من ثروات الأغنياء للمصلحة العامة، مع إيجاد إصلاح ضريبي جذري، وهو بذلك يصحح العديد من أخطاء ماركس، محدّثا تحليلاً منطقياً في ضوء البيانات الاقتصادية الحديثة مدعماً بالنظرية القائلة باحتواء الرأسمالية على تناقضات جوهرية كفيلة بتدميرها ذاتياً. وخاصة أن دخل الطبقة الوسطى ثابت طوال الثلاثين عاماً الماضية بينما الطبقة العليا حلقت بعيداً فى الآفاق بالحصول على حصص أضخم وأكبر من الثروة العالمية والدخل. مؤكداً على رؤية القس «توماس مالثوس» بأن النمو السكاني سوف يُبقي الكم الأكبر من البشرية أسير البؤس والفقر مثلما كان الحال فعلاً على مدار أغلب تاريخ البشر. وهو ما يراه «ديفيد ريكاردو» من أن طبقة ملاك الأرض سوف تظل تزداد ثراء إلى أبد الآبدين نظرا لأن قيمة الأرض ثابتة الحجم سوف تظل ترتفع نسبياً مقارنة بالمعروض المتزايد من السلع الأخرى. فحسبما يرى بيكيتي، أنه كلما كان العائد على رأس المال المالي (الاستثمار) أعلى من العائد على رأس المال البشري (الإنتاجية) لفترة ممتدة، فإن حسبة بسيطة تكفي لنصل إلى نتيجة أن ذلك الوضع سيفضي إلى ازدياد التفاوت. والسبب: أن أصحاب أعلى الدخول سيدخرون ويستثمرون مما يؤدي إلى توليد دخل رأسمالي يتيح لهم أن يتقدموا على أولئك الذين يعتمدون فقط على الأجور والرواتب إلى حد الانفصال عنهم. ولا يستغرق الأمر غير أجيال قليلة قبل أن تتحول هذه الثروة المتراكمة إلى عنصر مسيطر في الاقتصاد والبنيان الاجتماعي الاقتصادي.