عبر تجليات رباعية «الوتد» للحكاء المصري الراحل «خيري شلبي» يقدم صورة هامة للمرأة المصرية و«شخصية الأم» بشكل خاص باعتبارها عمود الخيمة في مجتمعها الصغير والكبير، ورآها «الوتد» الضارب بجذوره في عمق التربة المصرية الأصيلة، فباتت تشكل عامل الأمان الأهم للحفاظ على التركيبة المصرية القيمية والثقافية والإنسانية، ولا خوف عليهم من قادمات عاتيات تدخل الحدود عبر غبار الرياح وانزلاقات أهل الحذلقات والبدع والهرطقات من الشرق أو الغرب، فتحافظ على حبات العقد المصري حتى لا تنفرط حباته مهما مرت بالوطن جحافل ميليشيات الفوضى من يمين أو يسار. يكتب خيري شلبي في الجزء المعنون ب«المنخل الحرير» يقول الراوي «أمضي خلفها ممسكا بجلبابها هذه المرة أحاول الانتظام في إيقاع جسدها المنتفض تحت قفتين ثقيلتين، والليل مخشوشن بصفير الصراصير ونقيق الضفادع ونباح الكلاب. تدلف أمي داخلة الدار بسم الله الرحمن الرحيم: تنادي من أول العتبة في هدوء قائلة: يا عبدالشافي. فيخف أبي لاستقبالها حاملا عنها بعض حملها ليضعاه على المصطبة الكبيرة التي ننام عليها كلنا. وهنا يحلو له أن يعود فيستغرق في النوم. تجيء أمي بالطشت وتضعه فوق المصطبة وتجلس أمامه. تنتظر قليلاً أزحف نحوها شيئا فشيئا علني أعرف فيم شرودها ذاك. أنظر في عينيها فأجد فيهما أبحراً من الحزن الغامض العميق فينقبض قلبي، يركبني الغم، أضع رأسي على فخذ أمي المتربعة محاولا الاستغراق في النوم كأبي. أشعر برعشته وسخونته فأعرف أنها لا تزال متعبة وأسمع دقات قلبها تطن في أذني. أتوقع أن ترفع فخذها لتدفعني صائحة (حل عني بقى خلي عندك دم)، لكنها لا تفعل، بل تمرر يدها على ظهري فأستنيم في لذة فائقة تخدعني، حتى لأغيب عن الوعي لفترة طويلة يحلو لي أن أطيلها بقدر.. تتسرب إلى أنفي وخياشيمي أحلى رائحة في الوجود مسكرة، لا أعرف إن كانت رائحة الدقيق الساخن أم رائحة جسد أمي المشع بالدفء والحرارة؟ أم هما الرائحتان معا؟ وإذ يشغلني التمييز بين الرائحتين أكون قد ذبت في نوم عميق عميق، وصرت جزءاً من موسيقى المنخل الحرير يرسم على الحائط ظلالاً من الألحان».. بين رائحة الأم، وصوت موسيقى «المنخل الحرير» في دراما «شلبي»، وما عشته عبر دراما واقع وجدتني في القلب منه بالأمس القريب حيث تداعيات حدث رحيل «أم» هي الأخرى «وتد» أصيل طيب نبيل. هيه مين؟.. هي «أم رامي» كما يُطلق عليها الجيران و«الست رجاء» هوه اسمها في شهادة الميلاد، إنما هيه كمان «صَدّيقة» على اسم «الحاجة صديقة» الست الجارة لوالدتها «كبيرة ستات حي النخال» اللي كانت لما تقول عمر ما ينزل ليها كلمة.. قوية البأس ولكنها محبوبة من الجميع. وقبل الزواج وقبل ما تكون «أم رامي» قالوا ليها في سن 18 هو ده ابن خالتك عريسك.. تثور رجاء وتقول: «أولا:ً والدي وأخي الشاب الجميل يادوب لسه مودعينهم للسما، غادرونا الواحد ورا التاني بعد 6 أشهر، ولا يمكن ألبس توب الفرح دلوقتي، وثانيا: أنا قبلوا ورقي في كلية الآداب، وعندي حلم أكمل تعليمي، وثالثا: في فرق كبير في السن بينه وبيني».. لكن كان الرد بإعلان ميعاد الخطوبة وبعدها كان الإكليل بسرعة، ولكن الفتاة تقرر أن يكون صدر فستان الخطوبة من الدانتيل الأسود، وكأنها تُشهد التاريخ وتوثق الحدث بشكل متميز (ملحوظة: الحدث في منتصف الخمسينات من القرن الماضي).. ثم الزواج في شقة في بيت عيلة الزوج، وتشجع الزوج لبناء بيت مستقل في منطقة صحراء جرداء ليكون أول بيت في شارع أطلق عليه اسم زوجها «مكرم».. ولأن في بيتهم التليفون الوحيد في الشارع فهي تتقبل أن يكون منزلها «سنترال للشارع بل وللمنطقة»!!.. وكمان شقتها «مدينة جامعية للقرايب قوي من الأقاليم حتى العثور على سكن وبعضهم أكمل تعليمه برعايتها.. والأغرب أن بيتها كان مستشفي للكبار برعايتها، وعندما توفى ابنها الطالب في سنة أولى جامعة، أصيب زوجها بشلل واكتئاب وزهايمر، وتكون هي نعم السند والدعم على مدى 20 سنة (ولا صبر أيوب!).. ويرحل الزوج، وتصاب بكسر في الرجل لتلازم الفراش لتعايش الألم والملل أكثر من عام قبل رحيلها.. أكتر من سبعين سنة ماعشتش فيهم يوم سعيد ولكنها في المقابل أسعدت كل اللي حواليها.. والمجال لا يتسع لسرد كل الأحداث بالتفاصيل، ولكنها بالفعل المرأة «الوتد» المحبوبة، وعلشان كده، مع أول صرخة ألم حزينة من ابنتها لمغادرة أمها دنيا الشقاء والعذاب والغدر تدوي في شارع «مكرم»، كان شباب المنطقة على باب غرفتها لتوديعها واستعدادهم للمشاركة في مراسم الوداع، وقالوا: الست «أم رامي» هيه أم ميخا وأم حسن وأم نشوى وأم هيثم وطارق وجرجس ونضال..» حكيت إشارات من كتاب حياتها لعل أجيالنا الطالعة الثايرة على طول بدون سبب تشوف وتتعلم.. الست دي خالتي.