عندما صدر قرار تعييني محافظا لمحافظة البحر الأحمر في يناير 1981.. آمنت أن قدري هو مواصلة المشي فوق الأشواك والجري وسط المتاعب والأخطار بعد خدمة طويلة .. تناهز 33 عاما في القوات المسلحة.. وأدركت منذ اللحظة الأولي أن تعاملي مع هذا الموقع لم يكن سياسيا فحسب.. بل لابد من إحداث تغيير فوق هذه البقعة الصحراوية من أرض مصرنا الغالية وبمواصلة مشوار الكفاح في زمن السلم لتحقيق التنمية والرخاء بعد صراع دام ربع قرن من الزمان سالت فيه الدماء في سيناء. ولا يمكن لمن يري الواقع في محافظة البحر الأحمر الآن أن يتصور بدايته ومراحل تميته منذ 22 عاما.. إلا إذا كان قد شهد واقعة قبل حدوث ما يراه وما يلمسه في كل موضع أو ناحية.. لابد أن يكون قد رأي هذه الأرض الصلبة.. والمسالك الوعرة .. والحياة الذابلة.. والعيشة الكبد.. والنفوس اليائسة.. والصور البائسة علي مساحة (1080 كم بعرض يتقارب 200 كم). ولكي يدرك أبعاد هذه الملحمة العمرانية لابد من أن يكون قد عرف عن كثب وخبر عن تجربة وخاض بغير انقطاع.. الأسلوب الذي اتبع في تحمل أعباء ومعاناة هذه الملحمة من مواجهة صارمة وتحد صامت دؤوب لكل مواريث العادات والتقاليد ومعوقات الروتين والقوانين واشكالية الأجهزة المختلفة.. وتثبيط الأدمغة المتخلفة ودوافع المنفعة والأنانية وحب الذات.. وكيد الكائدين ومكر الحاقدين. وأوكد أن كل من عاش هذه الحقبة قد استفاد علي مستويات عديدة.. ومساحات مختلفة.. بل إن كثيرا من الأنماط والصور والمشاهد ما كانت لتكون لولا الاهتمام بأبعاد العمل والسعي معه واستمرارية النصح والمعاونة وقوة الدفع لكل عمل تحتاجه التنمية باقناع متميز.. وجهد خلاق. وجدت أنه لزاما عليّ أن أعي كل السلبيات التي تعترض أي تنمية وما كان - فمواطنو البحر الأحمر عاشوا ظروفا كان من المستحيل أن تحقق لهم ما استطعت فيما بعد تحقيقه. - فهم قبائل تسيطر عليهم النزعة القبلية.. لم يعط لهم وزن يذكر كقوة سياسية أو اقتصادية. - ثم انهم كقوة عددية كانوا من أقل تعداد المحافظات. - كانوا في مجتمع مغلق.. وسلبية فرضت نفسها علي معظم أفراد المجتمع. - كانوا في مناخ غير مناسب وغير صحي لتحقيق أي نوع من أنواع التنمية، كانت هناك مقاومة التغيير والتطور التي تأتي بردود لا ترضي نفوس البعض ولا مصالحهم.. حيث إن حركة النمو والتطور تبعث الصحوة بين الجماهير مما يرتقي بهم حضاريا علي مستوي الفكر والسلوك.. وبما يسمح لهم بالتمييز بين مساحات النور والظلام.. وهي ظاهرة غير مرغوب فيها حتي لا تتأثر المصالح الخاصة. - كان هناك صعوبة طلب الدعم من الدولة.. خاصة بعد جروحنا من صراعات عسكرية ومشاكل أخري.. فلابد من الاكتفاء الذاتي داخل المحافظة. - وحيث إنها محافظة نائية حدودية صحراوية فهي منسية ومهملة وطاردة.. - غياب كامل للمرافق والخدمات.. خارج حسابات الذين يخططون للتنمية. - الجهاز التنفيذي ينقصه الكوادر.. كما أن الخدمات موزعة بين المحافظات، لم يكن بتلك المحافظة سوي مشروعات مركزية.. فقط.. فوسفات.. منجنير. - عاصمة المحافظة (مدينة الغردقة).. مدينة عسكرية.. سواحلها ملوثة بالبترول.. لا كهرباء.. لا بث إذاعياً أو تليفزيونياً.. لا صحف أو مجلات، مياه الشرب مخلوطة بالبترول.. لا طرق سوي مدقات رملية.. - استراحة المحافظ عبارة عن كشك خشبي أنشئ عام 1911 لمدير شركة شل عند اكتشاف البترول بالغردقة عام 1911. بدأت مرحلة البحث عن الإيجابيات - وجدنا في الدراسات الإسلامية.. أن الأقلين في كل شيء كانوا بناة عالم جديد.. حولوا الظلام إلي نور.. والضعف قوة.. حولوا الجهالة بإيمانهم معرفة.. صار العدم بكفاحهم وجودا.. والقلة كثرة ووفرة.. كل ذلك عندما كرسوا حياتهم لقضية الحق والخير.. - لم يكن بوسعي أن أحدث التغيير والتنمية وحدي. - أفضل ما نجحت في تحقيقه.. التركيز علي العنصر البشري في تحقيق الأهداف.. الإعداد في استخراج الطاقات الكامنة في المواطنين.. وتحريك الهمم وتحفيز العزائم المتراخية.. تعظيم الانتماء لدي المواطنين بمختلف فئاتهم. - تشجيع المستثمرين وإغراؤهم بإبراز مقومات المحافظة لاستغلال ثرواتها الطبيعية والبيئية.. فالمحافظة تحمل خصائص فريدة.. منجم لا ينضب أبداً.. ومورد عطاء لا يمكن أن ينفد.. مياه البحر الصافية.. الشمس الدافئة.. الهواء النظيف النقي.. الجبال الرائعة البديعة الخلابة.. الرمال الصفراء الذهبية.. وكلها ركائز التنمية السياحية.. بالإضافة إلي موارد الثروة الطبيعية معدنية ومائية.. ذهب .. نفط.. فوسفات.. منجنيز .. جبس.. رمال ناعمة.. رخام.. جرانيت.. وثروة سمكية .. وأعشاب ومنتجات بيئية صحراوية. لم أقف مكتوف الأيدي في انتظار المعجزات.. فقد كان إيماني عميقا بأن العزيمة القوية والعمل الجاد المخلص الدؤوب تصنع المعجزات. تم تخطيط المحافظة تخطيطا عمرانيا وسياحيا مستعينين بالخبراء المتخصصين المتطوعين.. كان علي رأسهم المرحوم الدكتور مهندس سيد كريم خبير التخطيط والتعمير بالأمم المتحدة.. كان تخطيطا علميا مدروسا.. اعتمد علي مفهوم جديد للسياحة وهو (تصنيع السياحة).. بجانب السياحة التقليدية (سياحة الآثار والمتاحف)، تم التركيز علي سياحة الشواطئ (ترويجية - رياضية - علاجية) وهي تمثل عشرة أمثال السياحة التقليدية. كان الهدف من التخطيط تحويل المدن المستهلكة إلي مدن منتجة تشترك في تدعيم الاقتصاد القومي. ظللنا نواصل الليل بالنهار في ملحمة دؤوبة وخلاقة.. كانت معركة التنمية تمثل تحديا كبيرا كافحت من أجل تحقيق أهدافها الاقتصادية. ودارت العجلة وتغير وجه الحياة فوق هذه المنطقة.. وتم إنشاء أول مركز سياحي علي مستوي الجمهورية في مدينة الغردقة.. فبدأ العمل والاهتمام القومي بسياحة الشواطئ علي مستوي سواحل الجمهورية علي غرار الغردقة وفرضت محافظة البحر الأحمر نفسها علي خريطة السياحة الدولية.. وتحقق أعلي معدل تنمية علي مستوي الجمهورية. وتتحول المحافظة إلي نموذج للكفاح والتعمير والإبداع.. إن ما تحقق علي أرض المحافظة يمثل تجربة فريدة من نوعها.. هذه التجربة تكتسب أهمية خاصة باعتبارها أول تجربة مصرية ناجحة للتنمية تعتمد علي تطور مجتمع قائم وموجود بالفعل وليس استحداث مجتمع جديد. ودرس يمكن تطبيقه في كل محافظات مصر حيث حدث تغير ملموس في فكر وسلوك المواطن.. والاعتزاز والزهو بالانتماء والمشاركة في التنمية. إن أصعب خطوة في طريق الألف ميل هي الخطوة الأولي.. وقد تحققت هذه الخطوة وتبعتها خطوات وخطوات.. حيث أصبحت محافظة البحر الأحمر محافظة متخصصة في صناعة الأمل والنجاح. إن في داخل كل منا أملاً يحتاج إلي عمل، فالعمل وسيلة والأمل غاية. ولولا زهرة الأمل في القلوب لما كانت هناك حياة.. والحمد لله قد غمرنا الأمل حتي اندفعنا إلي آفاق الحياة الكريمة المنعمة بالخير والبركة والرفاهية علي أرض هذه المحافظة الواعدة. تحية لكل من قدم جهدا مخلصا في تنمية المحافظة من الذين حولوا محافظة البحر الأحمر من أعماق النسيان إلي آفاق العمران. كانت روشتة العمل في المحافظة صانعة الأمل والنجاح ما يلي: إخلاص النية لله في العمل.. وتحقيق أهداف محددة بدقة بالعمل الجاد المخلص بعزم وثبات. مراعاة الشفافية والتجرد حتي لا تختل سائر الموازين والقيم.. تجنب أشواك الرغبات والشهوات والمطامح والمطامع والمخاوف والهواجس. احترام المال العام والمحافظة عليه دون رقابة مفروضة. تقدير دور الإنسان كصانع للتنمية (فهو وسيلتها وغايتها). التجاوب والتفاهم ووحدة الفكر بين جميع الأجهزة. العمل مهما كان مجاله أو نوعه.. طالما لا يتعارض مع الشرف وصالح المجموع. التعاون والمشاركة في العمل الجماعي وفي تحمل المسئولية. كم العمل وكيفه عنصران لا ينفصلان في التخطيط للعمل أو تنفيذه. الاستغلال المستمر للوقت والجهد. الصلة الوثيقة بين العلم النظري والتطبيقي.. وكلاهما يجب أن يطور الآخر. تحويل العاملين إلي مشاركين يتحلون بقدرة القيادة والرؤية.. لا أتباع. المتابعة المستمرة للأعمال والإنجازات والخدمات. إقرار مبدأ المكاشفة الصادقة. عرض الحقائق بواقعها الصحيح أولاً بأول في جميع اللقاءات. إزالة العقبات والصعوبات التي تعوق سير العمل في ظل روح الحماس في اقتحام المشكلات. الجرأة في المسلك والحسم في اتخاذ القرار. عدم إصدار قرار أو منفعة إلا للصالح العام دون أي استثناءات. اتباع سياسة الباب المفتوح (المقابلة الفورية) للجميع لعرض المطالب دون تفرقة. الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية هي فرق في كفاءة البشر.. وليس بالإمكانيات أو الثروة الطبيعية. نتيجة وحصيلة هذه الروشتة التي تم اتباعها في التنمية.. تحلي مواطنو البحر الأحمر بالقيم التالية: من يتق الله يجعل له مخرجا. الوفاء والانتماء والولاء الراسخ للوطن. العشق للعمل الخلاق وإدراك المسئولية الشخصية تجاه النفس. الحيوية والتصميم والتحدي وقوة العزم والثبات النابع من القلب والعقل. مواجهة القدرة علي التكيف في المواقف المختلفة والمرونة. البذل بكل سخاء والعطاء بلا حدود. تأثير القدوة والمثل الذي يحتذي. الشعور بالاطمئنان والاستقرار في جو تسود فيه روح المحبة والود والإخلاص. محافظ البحر الأحمر والجيزة الأسبق