المسكوت عنه فى حياة البشر أمر مشهود، وفى حياة البعض مدهش ومريع، وليس الاعتراف بالأمر الهيّن، ان تخرج كل شخوصك على طاولة التشريح، وتخبرهم بكل ما كان يدور بذهنك وانت بينهم، يتطلب هذا منك الجرأة والقدرة، والقرار بالبوح أمر ليس سهلاً خاصة أنه جاء من امرأة من الجنوب . صدرت مؤخرا رواية « بحجم حبة عنب» عن دار الحضارة للنشر للكاتبة منى الشيمى، وهى قاصة وروائية من مواليد محافظة قنا، فازت بالعديد من الجوائز المصرية والعربية عن أعمالها، منها جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2003، وجائزة نادى القصة المصرى، وجائزة دبى الثقافية عن مجموعة «من خرم إبرة»، وجائزة الشارقة عن مجموعة «وإذا انهمر الضوء»، كما صدرت لها مجموعة قصصية باسم «رشح الحنين». و«رواية بحجم حبة عنب» الصادرة مؤخراً تعد سيرة ذاتية للكاتبة، بعدما مرت بمأساتى فقد فى أسبوع واحد، الأولى لابنها الشاب الذى تحكى له الأم حكايتها فى الرواية، كمكافأة عن حياة كان من حقه أن يعيشها، يسعد أو يشقى فيها ليس مهما، لكنه لم يعشها، والثانية للزوج الذى مثل محوراً مهما فى الرواية، ورغم قسوة التجربة إلا أن منى لن تحاول أن تستدر عطفك عليها، بل على العكس هى تدعوك دعوة صريحة كى تسخط عليها، وأن كنت أكثر نبلاً سوف تشفق عليها من قسوتها مع ذاتها، اتسمت الرواية بالجرأة والتناول الواضح دون مواربة، لذلك توجهنا للكاتبة منى الشيمى وأجرينا معها هذا الحوار لعلها تخبرنا هل آن الأوان للمرأة العربية أن تعترف، خاصة فى ظل صدور فتوى منذ سنوات من الأزهر الشريف بكراهية اعتراف المرأة فى كل ما يخص المسكوت عنه لديها. بداية لا أعرف هل يجب عليَّ أن أقدم لك مواساتي لمصابك الجلل، أم أهنئك على صدور روايتك الأخيرة بحجم حبة عنب؟ - أنا أيضًا لا أعرف، عندما كنت أكتب مصابي لم أكن أفكِّر في كتابة رواية، بل كنت أريد بالكتابة لساعة يوميًّا، الانفصال عن حجم المأساة التي أعيشها، لأعود بعد هذه الساعة قادرة على تحمل ما يحدث، كان ابني مريضًا بالسرطان في غرفة، وزوجي مريضًا بفيروس سي في غرفة، وظللت عشرين شهرًا منقطعة لتمريضهما، وحمل كل منهما إلى مستشفاه وطبيبه. كانت الكتابة هنا فعل مقاومة وصمود ليس أكثر. وعندما ماتا وجدتها فرصة لتخليدهما، بخصوص الرواية، من الحزن يتولَّد الفرح، هل تعرفين تلك الحالة من الفرح، عندما يأتي رجل الإطفاء لرجل حرق بيته بأولاده وزوجته ليقول له إن صورتهم الجماعية قد تم إنقاذها! الصورة هنا تخلق نوعًا من الفرح.. فرحًا لا يشبه الفرح. منى الشيمي، بحجم حبة عنب هي سيرة ذاتية أكيدة، فهل تعتقدين أنه آن الأوان للكاتبة العربية أن تبوح بكل ما هو مسكوت عنه؟ - ثمة كتابات كثيرة تتناول المسكوت عنه، لا تصرِّح كاتباتها بأنها سيرة ذاتية، لأنهنَّ يسرِّبن أفكارهنَّ عبر قصص تبدو للآخرين مجرد قصص. القارئ العربي قد يقبل بكونها قصصًا لغيرهن، ولكنه يضعهن في قفص إذا قلن إنها سيرة.. نحن نحتال بعض الشيء، لكنه احتيال مشروع في ظل الازدواجية التي يعاني منها العقل الجمعي كله. كيف كانت نفسك بعد البوح؟ هل كنت تشعرين أنك أفضل؟ - لا، لست أفضل بعد البوح، مصابي جلل، كنت أعتقد أنني أكفِّن الماضي والحاضر في رواية، لكنهما يلاحقانني في المستقبل، لا يظل الإنسان كما هو بعد موت الأحبة، ثمة شرخ يحدث، لا يمكن أن يندمل، الرضا لا يعني النسيان، بل يعني التعايش! على الرغم من أن الرواية تعد من الجنس الأدبي المعروف بأدب الاعتراف فإنها لم تتسم بالجرأة فيما يخص علاقة الرجل بالمرأة، مثل كتاباتك السابقة ومنها مثلا «من خرم ابرة»، فهل تعاملتِ مع هذا التابوه فى سيرتك بتحفُّظ؟ - لا أميل إلى الجنس الفاضح، أكتفي بالجنس الواضح، ليس خوفًا من المجتمع. المجتمع الذي لا يوفِّر لأبنائه الحرية الكافية يوفر المبرِّر لاختراق «التابو». ككاتبة أنا قوية بما فيه الكفاية لأتناول ما أريد، انتخبت أحداثًا خدمت فكرتي ورؤيتي واكتفيت بها، في أعمالي السابقة تناولت الجنس بما فيه الكفاية، حتى أنهم أطلقوا على ما أكتب «كتابات بورنو»، وهوجمت بشدة على صفحة جريدة المصري اليوم على فيس بوك.. مجتمع يرى أن كتاباتي جنسية، على الرغم من احتلاله مكانة متقدمة في البحث عن مواقع السكس على جوجل، والتحرُّش، هذا المجتمع لديه خلل عقلي واضح! هل كان يجب من خلال كتاباتك ان توثقى للمرأة الصعيدية أكثر؟ - لم أوثِّق في أي عمل للمرأة الصعيدية، بتُّ لا أرى فرقًا جوهريًا بين المرأة الصعيدية ونظيرتها في وجه بحري أو القاهرة، كلهن مقهورات، التدين الظاهري الذي أصاب المجتمع جعل النظرة إلى المرأة موحدة: «مصدر للغواية»، وبناء على هذه النظرة، توحَّدت طرق التعامل معها في كل مكان. كما أنني أرى أن المرأة الصعيدية صلبة بما فيه الكفاية لتتصدَّى لمحاولات قمعها.. ثمة فكرة خاطئة عن الصعيد، «موتيفة» صدَّرها الإعلام المزيف، والأعمال الدرامية التجارية التي لم تخرج عن صورة الصعيد في الأربعينيات، بل وجدت في الإبقاء عليه كما هو وسيلة للعمل على تجمُّع سكاني له مفاهيم مغايرة يجذب الترويج له المال والانتباه! في رواية بحجم حبة عنب، شعرت أنك غريبة عن الصعيد وأنك تكتبين عنه كزائرة، هل عشتِ عمرك كله مغتربة فيه؟ - للأسف صورة الصعيد في وعي القاهري مغلوطة، لك أن تتخيلي أن القاهريين ما زالوا يعتقدون أننا نعيش في عرائش وبيوت طينية، كما يتصوَّر السائح عن مصر: صحراء وجمال وأهرامات ونيل. هل هذه صورة مصر الحقيقية؟ بخصوص الاغتراب، الاغتراب لازمني منذ كنت طفلة، والسبب هو الوعي، يحدث عندما تتجلَّى لك الصورة الكلية، تدركين حجم تفاهة الآخرين، وأن تهافتهم على أشياء لا تمثل لك قيمة يثير غثيانك. كذلك أفكارهم الجاهزة المتبنَّاة من مصادر كل غايتها أن يظل العقل متخلفًا، كرأيهم في المرأة مثلاً. ولأني لم أستطع تغيير الكثير من مفاهيمهم حدث اغترابي، ووجدت في الكتابة الحل الأمثل للانتقام من الجميع، وربما الانتقام من عجزي عن تغييرهم! إلى أي حد تسببت لك سيرتك الذاتية في متاعب أسرية؟ - لم تتسبَّب حتى الآن، لم آخذ نسخي من الناشر، ببساطة لم أقل لأحد إنني كتبت سيرتي الذاتية، واعتمدت على انصراف المجتمع كله عن القراءة. أستطيع الاحتيال بسهولة يا سيدتي، فالاحتيال هو الوجه الآخر للقهر، من الممكن القول وقتذاك إنها ليست سيرة ذاتية، بل محض اختلاق، لم أكتب على الغلاف أنها سيرة ذاتية، وهذا جعلني أكثر حرية عند المراوغة! انتهت الرواية نهاية غير متوقعة، كالتسامح مع البعض والتواصل مع البعض الآخر، هل تعتقدين أن الإنسان لا يستطيع الاعتراف إلا عندما يصل إلى هذا الحد من التصالح مع النفس؟ - لم أكن متصالحة مع نفسي أثناء كتابة الثلثين الأوَّلين منها. بدأ تصالحي مع نفسي كلما ازدادت أعداد الأكفان في الرواية، بما فيها كفني نفسه، وعندما صار لديَّ مقبرة جماعية بدأت أشعر بالراحة، انفصلت عن نفسي ورأيت كل شيء من زاوية بعيدة، واكتشفت كم كنت سيئة أيضًا. نعم أعترف: أنا سيئة وربما ما زلت، ليس هناك سقف للتصالح مع الذات، ثمة تداخل حد التلاشي، هذه حالة أعلى وأسمى، أعتقد من الصعوبة الوصول إليها الآن. في الرواية أنت لا تستدرِّين عطفًا، بل على العكس أنت تجلدين ذاتك، لماذا كنت بهذه القسوة مع نفسك؟ وبماذا يفيد تعاطف الآخرين؟ - لم يكن ليبقى ابني على قيد الحياة، لم يكن ليوجد لي المال الكافي لعلاجه، جلدت ذاتي بما يكفي كي أستريح قليلاً، كنوبة البكاء التي نخرج منها إلى النورانية أقرب. لماذا لم تميز كتاباتك اللهجة الصعيدية؟ - أعترف بأن المجتمع الجنوبى لم يعد يتميز كثيرا عن المجتمع القاهرى، لا من حيث اللغة ولا من حيث العادات والتقاليد، بل هو مجتمع يعانى من الازدواجية، وما يحدث على السطح مختلف عما يحدث فى الخفاء، باستثناء القرى النائية وبعض المجتمعات غير الصناعية، ربما نتيجة تأثرنا بالثقافة الاستهلاكية واللهاث وراء لقمة العيش، كما أن الدين ساعد على توحيد تصرفاتنا الظاهرية، أما التصرفات الباطنية فلا سقف لإحصائها. أعتقد دوما أن الفكرة تخلق لغتها داخل النصوص، كلما امتلكت ناصية الفكرة امتلكت لغتها، اللغة ككل شىء فى زمننا خضعت للتغيير، لم تعد هناك لهجة مستقلة عن باقى اللهجات، كما لم تعد هناك عادات مستقلة تميز مجتمعاً عن آخر بنفس الحدة التى كانت عليها فى السابق، مناطق متداخلة تنعدم فيها الخصوصية، العولمة وإزالة الفواصل نتيجة تقدم وسائل الاتصال ساعدت كثيرا على تغيير وجه الحياة، أصبحنا وبشكل مقيت نتشابه كالدمى فى لهجاتنا وعاداتنا. غيرت إقامتك قبل ذلك من النجع إلى الغردقة، فهل يمكن أن تستقرى فى وقت ما فى القاهرة؟ - الكاتب الجنوبى لا يحتاج إلى الذهاب الآن إلى القاهرة، فالمشهد الثقافى لم يعد منفصلاً، وسائل الاتصال جعلت القاهرة بشوارعها وناسها ومنتدياتها ومنشوراتها وزخمها وأضوائها موجودة فى علبة الكمبيوتر، الإبداع عمل فردى، والثقافة متوافرة فى الكتب، أنا هنا، دون الذهاب إلى القاهرة. إذا ما ابتعدنا عن المشهد الأدبي، كيف ترين المشهد السياسي؟ - مشهد بائس، مشكلة مجتمعنا الوعي، الذي تم تجريفه وتنميطه منذ ستين عامًا، أثق أن دورة الوعي يجب أن تأخذ وقتًا طويلاً ليعود المصري قادرًا على الفهم بعيدًا عن تأثير وسائل إعلام موجهة، ومتباينة. الأمر ليس سهلاً لكنه ليس مستحيلاً، قد ينتفع أحفادنا إذا بدأ الوعي يؤتي ثماره! ماذا كان شعورك عندما تولى الإخوان الحكم في مصر؟ وماذا كان شعورك وقتما تركوه؟ - بكيت عندما تولى الإخوان حكم مصر، ليس لأنهم سيحكمون مصر بمرجعية دينية، أعرف أن الإخوان متلوِّنون، والحكم هدفهم وليس وسيلتهم، لكنني بكيت لأن المصريين رأوا فيهم المخلِّص. وحزنت أيضًا، لأن غالبية المصريين كما جاءوا بهم دون تفكير، ضجروا منهم سريعًا لأنهم لم يحققوا لهم رخاءً اقتصاديًا مرتقبًا، لسنا بحاجة إلى رخاء اقتصادي فقط، طبعًا سياستهم كانت خاطئة لا أنكر، لكن أزمة البنزين والسولار ورغيف العيش هي ما حرك الشارع، وهذا أمر مؤسف. نحن بحاجة إلى ثورة على مفاهيمنا المغلوطة، كل شيء صار له مفهوم مغلوط موازٍ، نتعامل به مع الآخر. ونرسخ لتداعياته أيضًا.. لأن التدهور يولِّد تدهورًا أكبر.. وهكذا! أعلم أنك في أثناء 25 يناير كنتِ تمرين بظروف قاسية، لكن هل لو كانت الظروف مختلفة كنت شاركتِ في الثورة؟ - شاركت في بداية الثورة بطريقتي، ابني كان ينظم المظاهرات في النجع ضد ذيول الحزب الوطني، كانت لنا ثورة خاصة في النجع، وعلى الرغم من اتهامي بأنني لم أربِّ ابني جيدًا (لمجرد أنه ينظم المظاهرات) صمدت أمام الاتهامات، التي فجَّرت بدورها اتهامات أخرى أبرزها أنني كاتبة.. يا عزيزتي في الصعيد كون المرأة كاتبة فهي بهذا شيطان يجب أن يرجم. هل هذه النظرة لم تتغير حتى بعد ان حصلت على العديد من الجوائز المحلية والعربية؟ - مقياس النجاح مازال ماديا ومثيرا للشفقة، ليس فى مجتمعى الجنوبى فقط، بل فى مصر كلها، أحيانا يُديننى المجتمع، إذا تعرضت لعثرة فى حياتى، قد يتعرض لها أى شخص لا يكتب، يقولون وقتها إنى كاتبة أهمل شؤون حياتى: بيتى وأولادى لصالح الكتابة ومحاولة الشهرة، وأحيانا يرفعنى ذات المجتمع عاليا، إذا حصلت على جائزة نقدية كبيرة أو إذا ظهرت فى برنامج تليفزيونى أو إذاعى، حتى وإن كان البرنامج صغيرا لا يراه إلا عدد محدود.