قبل أن يصل الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة قال الأستاذ محمد حسنين هيكل إن برنامج الرئيس سوف يتألف من فقرة واحدة وهي الأمن. وكل ما يجري داخل مصر وخارجها اليوم يؤكد صحة ما ذهب إليه هذا الصحفي ورجل الدولة المخضرم. لكن الأمن سيبقي طوال فترتي رئاسة عبد الفتاح السيسي عنوانا كبيرا تتفرع منه عناوين أخرى. صحيح أن كل مرحلة في تاريخ مصر الحديث كانت تشغلها قضية واحدة، وأن هذه القضية الواحدة هي اليوم الأمن. لكن ما ذا تقول ،مثلا، عن الاستثمار؟ الحاجة إلى بيئة مناسبة للاستثمار سوف تجعل من الضروري أن يتفرع عن العنوان الرئيسي لأجندة الرئيس عنوان فرعي هو مكافحة الفساد. في أزمنة مضت كانت بعض الأجهزة المعنية بحفظ الأمن تدافع عن مصالح رجال الأعمال كما لو كانت مصالحهم «أمن قومي». وقد نشرت مرة خبرا في جريدة خليجية كنت مديرا لمكتبها في القاهرة ،عن رجل أعمال كبير، فإذا بمسئول أمني يتصل بي ويقول لي إن الخبر كاذب ولابد لي من نشر تكذيب له. قلت له إني لن أكذب خبرا نشرته بعد أن تيقنت من أنه صحيح. قال لي إن من زودني بالخبر صحفي إخواني يحقد على رجل الأعمال لأنه مسيحي. قلت له إني لا أهتم بالانتماءات الحزبية لمن يعمل معي ما دمت واثقا من مهنيتهم ،وما دمت قادرا على التيقن من صحة ما يقدمون من أخبار. وطال النقاش بيننا فلما لم يجد حجة يقنعني بها قال لي إن ذلك الخبر يضر بالاقتصاد الوطني. ولم أقتنع بما قال ورفضت تكذيب الخبر الذي كنت أعلم أنه صحيح، لأسباب أهمها أني لو كذبت نفسي لفقدت وظيفتي. كانت تلك بداية صراع قضائي كسبته في النهاية ،لكن ما لفت نظري هو أن ذلك المسؤول الأمني وغيره كانوا يدافعون عن رجل أعمال مثل ذلك الرجل، لا لأنهم كانوا يطلبون لأنفسهم مصلحة ما، ولكن لأنهم كانوا يظنون أنهم يدافعون بذلك عن مصالح البلد. هناك، طبعا، في كل جهاز من يعمل لحساب نفسه ومن يضع وظيفته وسلطاته في خدمة من يستفيد منهم، لكن هذه استثناءات والأصل أنه بمجرد أن انحازت الدولة لطبقة رجال الأعمال أصبحت الأجهزة الأمنية تدافع عنهم بنفس الحماس الذي كان أسلافهم يحاربون به «الإقطاع والرأسمالية»، في زمن سابق. الدكتورة هالة مصطفى تقول إننا لا نعرف التوجهات الاجتماعية للنظام الجديد ولا نستطيع اليوم تحديد أيديولوجيته. أظن أنه سيبقى من غير أيديولوجية. وهذه هي طبيعة السياسة المصرية التي ظلت ،في كل العصور، عملية (براجماتية) غير مؤدلجة رغم كل الادعاءات. ولكن أيا كانت مواقف النظام الجديد من رجال الأعمال فنحن لا نطلب منه أن يعاديهم، فهم صانعو الوظائف وهم قاطرة التنمية، لكننا نخشى العودة إلى منطق التستر على الفساد بدعوى أن البلد مش مستحملة، وأن أي فضيحة يمكن أن تزيد المستثمرين نفورا من الاستثمار عندنا، وغير ذلك من الكلام الذي طالما سمعناه في عهود سبقت. رائحة الفساد لا تخفى على أحد. يكتشفها المستثمر – إذا كانت موجودة - بمجرد أن يضع قدمه على أرض المطار. يكتشفها وهو في بلده عندما يطلب أن تترجم له التهاني والتعازي المنشورة في الصحف الكبرى. يكتشفها من قراءة قوائم من خصصت لهم أراض في ظل النظام الذي يحكم البلد الذي سيزوره، والأسعار وطرق الدفع التي تم بموجبها التخصيص. والكشف عن الفساد واقتلاعه لا يضران النظام أبدا، حتى لو كان المتورط في الفساد وزيرا. وكل معركة تنتهي بسقوط فاسد تجعل النظام أقوى. لكن مكافحة الفساد لا تعني النبش في الماضي بقدر ما تعني الامتناع عن ممارسة ما غرق فيه النظام السابق – الذي انتهى في فبراير 2011 على اعتبار أن الفترة من سقوط مبارك وصعود السيسي هي فترة انتقال لم تؤسس نظاما بمعنى الكلمة – من اشتباك مع مجتمع الأعمال حتى صار المساس برجل أعمال كبير مساسا بالنظام ذاته. وليست الحرب على الفساد العنوان الفرعي الوحيد الذي يندرج تحت بند الأمن. فهناك بندان آخران مهمان، على الأقل: العدالة الاجتماعية واستمرار التواصل بين الرئيس والناس، بالطريقة التي شهدناها عندما كلم الرئيس الناس ليوضح لهم لماذا قرر رفع الدعم عن سلع مهمة. العدالة الاجتماعية تحمي ظهر النظام وهو يخوض حربا لا يبدو أنها ستنتهي قريبا، ضد عدو يأتينا مرة من الشرق ومرة من الغرب، ومن يدري فقد يأتينا غدا من الجنوب. أحوال الناس صعبة.وعدد المتسولين في القاهرة يتزايد بشكل لم ألحظه في تاريخها. كنت واقفاً في بيكاديللي ستريت عندما رأيت رجلا يفتش في الزبالة عن شيء يستفيد به. قلت لمن كانوا معي: بلدنا مصر أفقر بكثير من هذه البلاد، كما تعلمون ،لكن لا أحد يبحث عن رزقه في الزبالة في مصر سوى الزبالين. لكني أري الكثيرين يمدون أيديهم اليوم للبحث عن أي حاجة في الزبالة. وفي ظروف بهذه الصعوبة يبقى الحديث المباشر بين الرئيس والناس، عندما تنشأ حاجة حقيقية لذلك، أمرا مهما. وقد لمست بنفسي في الأسواق وفي المواصلات العامة أن حديث الرئيس عن رفع الدعم بلهجته الواقعية والهادئة كان مفيدا. العناوين التي تتفرع من العنوان الرئيسي – وهو الأمن – قد تكون أكثر مما ذكرت ،لكن يبقى الأمن العنوان الأكبر أو المدخل إلى كل ذلك.