«إلى أمى وكل البنات والستات فى حياتى، كل واحدة منكن أسطورة تمشى على الأرض، أما عن ستى، فأنا ظلها الممتد» بهذه الكلمات الناعمة، التى تقدس المرأة، وتعيد لها الاعتبار فى الحاضر وفى قصص التراث، وتحيل فيها إلى سحر حكايات الجدات والأمهات، تهدى الكاتبة الصحفية والناقدة السينمائية «ناهد صلاح» كتابها الصادر قبل أسابيع عن دار المحروسة تحت عنوان «الحتة الناقصة.. حكايات افتراضية» الذى التهمت قراءته فى جلسة واحدة، بدأت فى العاشرة مساء وانتهت فى الواحدة صباحا. لم أستطع أن أصنف الكتاب بعد الانتهاء من قراءته، هل هو رواية أم انطباعات عن الحب والحياة والعلاقات الاجتماعية، والتطورات التى لحقت بها وعن تأثير ثورة يناير عليها، أم هو من كتب المذكرات التى تلجأ فيه الكاتبة إلى استلهام القصص الدينى، وحكايات الحب المتداولة فى التراث الشعبى، وفى التاريخ الوطنى، ثم تربط بين كل هذا وقصة الحب الافتراضية التى تنشأ على شبكة التواصل الاجتماهى «فيس بوك» بين «ناجية» أو الراوية و«باهر» اللذين لم يلتقيا أبدا، وعن رحلة «ناجية الحالمة الواهمة فى ذلك الفضاء الافتراضى الذى لا ينتهى، أم هو نوع جديد من الكتابة السردية التى تتداخل فيها الأماكن والأزمان، والحقائق بالأساطير، وقد يحوى كل هذه الاشياء مجتمعة ويضيف إليها، وهو شكل من الكتابة أخذ يفرض حضوره بقوة على الساحة الأدبية خلال السنوات الأربع الأخيرة؟ اسئلة لم أتوقف أمامها طويلا أمام الدهشة والاعجاب بقدرة الكاتبة على الحكى والتقاط التفاصيل، والربط فيما بينها، والرؤية الجديدة التى تنسج بها بلغة فاتنة مكثفة مليئة بالدلالات، تمزج بين العامية والفصحى، قصص الحب المتداولة، التى ساهم فى صنع أحداثها ومصيرها وبعض نهايتها الحزينة واقع اجتماعى يحظر الحب، ويرى العشاق مجرد خطايا. وفى تلك القصص تنحاز الكاتبة إلى المرأة المحبة العاشقة، وتصحح مسار الحب كأرقى شعور إنسانى من قصص الواقع الاجتماعى. فحسن المغنواتى ليس هو الشاب الناعم المهذب الذى يهيم عشقا فى نعيمة كما صوره لنا الشاعر «عبدالرحمن الخميسى» الذى كتب قصة وسيناريو وحوار فيلم حسن ونعيمة، وقدم فيه الخميسى للشاشة العربية للمرة الأولى النجمة «سعاد حسنى» بعد أن اكتشف مواهبها، ليختارها المخرج بركات بطلة للفيلم، بل هو «كذبة كبرى» كما تقول المؤلفة، وتضيف «خرج من كل فرح أحياه مصطحبا امرأة يمنحها لذة عابرة» أما نعيمة فكانت «الهبلة التى فتنها الديب السحراوى وسلمت له روحها»، فيما يبدو أنه اسقاط على قصة ناجية وباهر، أما حسن ونعيمة الخميسى فربما ينطبق عليهما قول والدة الكاتبة» إن «الحياة حلوة أوى فى السيما.. السيما هى الجنة»! بنت المؤلفة كتابها على مقابلة مدهشة بين سبع قصص تراثية وبين قصص واقعية، ففى مقابل حكاية حسن ونعيمة، تأتى حياة الجدة القوية المتدينة والمهووسة بالنظافة، التى تزوجت رجلا لا تريده، ومع ذلك عاشت معه حياة ملؤها الدفء والتفهم «تجلس إلى جوار جدى ساعات طويلة» لايشعران بالملل ولا يكفان عن الكلام «والأكيد أن يدا إلهية دربتهما على ذلك».أما سكينة عاملة البناء صاحبة الصوت الشجى، التى تحولت إلى المطربة ألمظ، وذاعت شهرتها ،فحاصرها عبده الحامولى بالحب وتزوجها، فتفانت فى محبته ثم ماتت، كى يكتمل حضوره كمطرب بغيابها. تماما كما فعلت الأم، التى وضعت معادلة خاصة لحياتها هى كما تقول الكاتبة «ان تنزوى لأظهر أنا». وتتوالى الحكايات عن الأميرة عزيزة بنت السلطان التى أحبت الفتى القوى والشجاع يونس، فتودعه قصرها ليبادلها الحب، لكنه يرفض ويشترط لذلك أن ينال حريته، فالقيود والحب نقيضان لا يجتمعان. ولعل ذلك هو نفسه ما يقود إلى حكاية «العانس» محبوبة، المرأة الجميلة التى أحبت فى عالم ملىء بالكراهية، حتى آلت إلى عجوز وحيدة، بعد أن فقدت إحدى عينيها فى الحرب التى نشبت بين قريتها وقرية مجاورة» وخذلها حبيبها الذى استكبر أن يتزوج من ابنة العدو». وتتواصل الرحلة من صبر ناعسة على مرض الزوج والنبى «ايوب» حيث تتفانى فى العيش فى ظله، فلا تنصفها المواويل التى أسرفت فى ذكر صبر أيوب وحده متجاهلة صبرها، إلى مريم الخائفة المرتجفة التى تزوجت رجلا ثريا لا تحبه، ورفضت الكنيسة تطليقها، فعاشت حياة العجز ولم تشعر بالتحرر إلا لحظة وفاته، ومن زبيدة الرشيدية التى أجبرت على الزواج من الجنرال الغازى «جاك مينو» إلى «هدى» المرأة المثقفة النزقة المثيرة للإعجاب والحسد «التى تختفى من المشهد بشكل غامض مفتوحا على كل الاحتمالات، ولا تنسى فى غيابها ان تراسل الراوية «ناجية» برسالة قصيرة تقول لها فيها: انج بنفسك واجعلى لك من اسمك نصيباً. ومن قصة سيدنا «يوسف» وزليخة ،إلى ليلى الفاتنة المتمردة التى فجأت بلدتها بالهروب مع حبيبها ملبية نداء قلبها، ومن شهرزاد التى نسجت بذكائها ودهائها وثقافتها، قصصا لشهريار الملك كى تنجو من استغلاله ونهمه للقتل، إلى ناجية الراوية أو الكاتبة أو المرأة، التى لاتكف عن طرح اسئلة الوجود، اسئلة الحاضر والمستقبل، وهى تنصت إلى صوت مارسيل خليفة يشدو بكلمات محمود درويش: نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا. «الحتة الناقصة» هى رحلة تأمل ممتعة، مليئة بعوالم من السحر والأساطير، من الكاتبة الموهوبة «ناهد صلاح» فى الذات الإنسانية التى تنشد الحب، لكنه أبدا لا يكتمل، بسبب الصراع الأبدى بين الخير والشر، بين الحداثة والبداوة، بين الجهل والمعرفة، بين القيد والحرية، عالم يستند إلى حكايات التراث، لكنه ينفتح على مرارات الواقع الراهن، الذى تصبح فيه المحبة والحرية والوعى والعدل والمساواة والجسارة هى شروط لا بديل عنها للتغلب على مرارات هذا الواقع. من أين استقت ناهد صلاح عنوان كتابها؟ لم يبرح هذا التساؤل ذهنى، حتى وجدتنى أدندن مع المطرب والملحن البديع وجيه عزيز واحدة من أجمل أغانيه للشاعر الجميل المختفى «على سلامة» سليل بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد وتقول كلماتها: وكل ما أوزن، ألاقى لسه ناقص لى حته، أحط حته، تقل حته، وأجيب قميص، تضيع جاكته، وأعيش لى ساعة، يفوتنى ستة، وكل ما أوزن ألاقى ناقص، أقول بناقص، لو هى حته، أتارى لسه، ولسه تاخد سنين وحته، وحجات تسبنى، وحجات تاخدنى، لحجات تخبط فى كل حته، وأقول حنفرح، ف يوم ها نفرح، ويوم ما نفرح، على الله يفضل فى القلب حته.