المشاركة في الملتقى الثالث للمدافعين عن حرية الصحافة والاعلام في العالم العربي الذي انعقد في العاصمة الأردنية عمّان فرصة للقاء نخبة من الأصدقاء الفنانين والاعلاميين الذين أتوا من رياح الأرض الأربع ليجتمعوا تحت عنوان حرية التعبير. وعلى أهمية ملاحظاتهم الجوهرية وآرائهم المختلفة حيال الأوضاع والأزمات العميقة التي يعيشها وطننا العربي والتي لم يسلم منها الملتقى نفسه، فإن اللقاء بحد ذاته، كما نكرر دائماً، مناسبة لتبادل آراء وأفكار والاستماع لوجهات نظر متعددة وتمرين للذات على قبول الآخر المختلف في زمن الالغاء والتخوين والتكفير والاقصاء، لهذه الأسباب ولغيرها تظل فرصة اللقاء أمراً منشوداً ومحموداً مهما اعترى المناسبة، أي مناسبة، من شوائب وثغرات. زيارة عمّان هذه المرة كانت لمّة حقيقية لنخبة من الأحبة (نعود اليهم لاحقاً)، واكتشاف من قرب للفرقة المصرية الشهيرة إسكندريلا التي سبقها صيتها الطيب الى عواصم عربية كثيرة وبات لها عشاق ومتابعون في أنحاء الوطن العربي كافة نظراً الى ما تقدمه من فن راقٍ ملتزم بقضايا الانسان من دون التخلي عن الجماليات الضرورية لأي عمل ابداعي لأن تلك الجماليات متى غابت حوّلت العمل الفني خطاباً سياسياً أو اجتماعياً مباشراً وأسقطت عنه صفته الابداعية، وتلك حفرة وقع فيها كثير من الفنانين ذوي النوايا الحسنة تجاه قضاياهم لكنهم لم يميزوا جيداً بين الخطاب الابداعي والخطاب السياسي خصوصاً المرتبط منه بمناسبات محددة جعلته يتلاشى بمجرد زوال المناسبة نفسها. مع إسكندريلا نحن حيال تجربة مختلفة تماماً تعي أهمية تقديم ما يحاكي هموم الناس ويلامس وجدانهم ويحرك فيهم المشاعر الكامنة المنتظرة لمن يعزف على وترها، وفي الوقت نفسه تجربة مدركة أن العمل الابداعي يختلف تماماً عن الخطاب المباشر والمؤدلج، لذا نجد في أغنيات الفرقة وموسيقاها ذاك الاجتهاد الحثيث لتقديم نصوص شاعرية بامتياز ملآى بالصور والاستعارات والتشابيه الجميلة، مثلما نجد النصوص الصريحة المباشرة التي تقول القضية السياسية والاجتماعية من دون مواربة ولا لف أو دوران، والأهم في الحالين ذاك الاشتغال العميق على جُمل موسيقية طالعة من صميم الموسيقى العربية ومتصلة بسياقاتها وبنتاجات الاسلاف العظيمة ما يذكّرنا بكبار أثروا موسيقانا بالجمال المغوي وخصوصاً بسيد درويش، فضلاً عن الاتقان الرفيع لدى معظم عازفي الفرقة وإيلاء آلة العود المكانة التي تستحقها في سياق العمل ككل. لن نستغرب اذا علمنا أن مؤسسي الفرقة وعدداً من أعضائها هم من أبناء وأحفاد شاعرين من كبار الشعر المصري هما فؤاد حداد وصلاح جاهين اللذان أعطيا العامية المصرية أبعاداً انسانياً عميقة واكتشفا كما فعل بعض أسلافهما الكثير من دررها المكنونة وقدما قصائد حفرت عميقاً في الذاكرة الجماعية لأبناء مصر ولكثير من العرب المتابعين لتجربتهما الثرية المتواصلة عبر أجيال متلاحقة من نجيب سرور وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم الى سيد حجاب ونجيب شهاب الدين وجمال بخيت وأمين حداد وبهاء جاهين وأحمد حداد ومصطفى ابراهيم وسواهم ممن يمنحون الشعر دوره المحوري في الحياة العامة كما تجلى ذلك جيداً في ميدان التحرير ابان ثورة 25 يناير حيث كان أيضاً ميداناً للتعبير وللابداع الحر الجميل. الاصغاء لفرقة اسكندريلا واللقاء مع أعضائها وخصوصاً حازم شاهين وسلمى حداد وأشرف نجاتي وعليا شاهين ويوسف الشريعي وأحمد الموجي وسيكا وفريد جاد واسلام عبدالعزيز ورفاقهم متعة خالصة نظراً للشغف العارم والحماسة المنقطعة النظير التي تميزهم فضلاً عن الحرفية العالية في الأداء الموسيقي والغنائي الفردي والجماعي والمقدرة على استدعاء المتلقي الى حالة من الوجد والذوبان والتماهي ما ذكّرنا فعلاً بالعصر الذهبي للموسيقى والغناء العربيين فضلاً عن المضامين الانسانية والوطنية والقومية العميقة مضافاً اليها خفة الدم المصرية واصطياد العبارة الفطنة اللّماحة التي تدخل القلب من دون استئذان تماماً كما دخلته فرقة إسكندريلا. نقلا عن صحيفة الحياة