يومان كاملان وكأنني أعيش مع إله الشعر «أبو لو» في مدينته اليونانية القديمة فالأحاديث الجانبية حول الشعر العربي وقصيدة التفعيلة وموضوعات الشعر الراهنة ومأزق الشاعر العربي المعاصر وغير ذلك مما يتم تداوله حتي في قاعة الطعام، أما قصائد الشعر فهي تتردد وتصل إلي مسامعك من هنا وهناك وكيف لا وهي احتفالية «مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري»، بصدور الطبعة الثالثة من معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين الذي احتوي ما يقرب من ثلاثة آلاف ومائتي شاعر عربي معاصر بسيرته الذاتية ونماذج من شعره.. بحضور أكثر من مائة شاعر عربي وخمسين شاعراً مصرياً، وكان هناك شعراء من موريتانيا وتشاد، كما شارك فى الافتتاحية محافظ الإسكندرية اللواء طارق المهدي الذي عبر عن سعادته بصدور الطبعة الثالثة من معجم البابطين من مدينة الإسكندرية مدينة الثقافة والعلوم ووجه التحية للشيخ عبدالعزيز البابطين معتبره الرجل الحلم الذي استطاع أن يحلم حلم كبير ويحققه، كما حضر الدكتور خالد عزب مدير المشروعات الخاصة بمكتبة الإسكندرية والذي أعلن عن شراكة قريبة بين المكتبة ومؤسسة البابطين لكتابة مشروع ذاكرة العرب، وعقدت أربع جلسات نقاشية حول حضور المرأة في المعجم، الذي رأه الدكتور فوزي عيسي أنه حضور ضعيف ويجب دراسة أسباب ذلك، أيضاً تم مناقشة موقع شعراء الألفية الثالثة في المعجم، حيث أوضح الدكتور مصطفي الضبع أن هناك نوعاً من استدعاء للشاعر العربي القديم في كثير من قصائد هؤلاء الشعراء، ولقد طالب رئيس الجلسة الدكتور عبدالله التطاوي نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق طلبة الماجستير والدكتوراة بتسجيل موضوعاتهم من داخل هذا المعجم الكبير الذي يضم آلاف الشعراء الذين كتبوا في كل الموضوعات الشعرية فهو كنز علمي يجب أن يخضع للدرس النقدي. أيضاً من البحوث التي قدمت في الاحتفالية وكانت مفاجأة هي دراسة حول الشعر الموريتاني الذي حضر بقوة في المعجم منافساً دول عربية في عدد الشعراء، موكداً الدكتور سالم عبدالرازق أن هذا المعجم جمع شعراء العربية دون تحيز إقليمي أو جغرافي أو مذهبي بل وثق لجميع الشعراء بحسب الترتيب الأبجدي فقط، ويكفي أن نعرف أن المشهد الشعري الموريتاني قريب الصلة بالإبداع العربي وأن أدباء موريتانيا كانوا أسبق من البارودي وأمير الشعراء أحمد شوقي، فيما ندعيه بإحياء الشعر العربي! تنتهي المناقشات لتبدأ من جديد ولكن ظل سؤال يلح في ذهني طوال الجلسات الأولي للمؤتمر ومفاده: ما الذي يدفع هذا الشيخ الجليل لكي ينفق أموالاً طائلة لا تعود عليه بربح من أي نوع لكي يجمع سير الشعراء العرب محدثيهم وقديمهم في عمل شاق هو المعاجم فسخر له مؤسسة كاملة وجيشاً من الباحثين والدارسين طوال خمسة وعشرين عاماً كاملة يعملون بلا ملل ولا كلل؟ فطلبت أن أقابله لكي أسأله وأخبره ما دار بذهني، فرحب شريطة أن يدور الحديث عن الشعر والشعراء، ولكني فاجأته بسؤالي فابتسم وبدأ الحديث الذي تنفرد به «الوفد» قائلاً: كنت صغيراً عندما كان أخي عبداللطيف الذي يكبرني بعشر سنوات يجمع شعراء النبط في الديوانية خلال الأربعينيات من القرن الماضي يرون شعر سابقيهم ويتغنون بأشعارهم وكنت أنا في ذلك الوقت لم أتجاوز السبع سنوات أقدم لهم الشاي والقهوة وأجلس لاستمع للشعر الذي يلقونه وكبرت وكبر معي عنصران مهمان من عناصر تكوين شخصيتي، العنصر الأول هو محبتي للشعر والشعراء.. أما العنصر الثاني، فهو رغبتي في أن أخدم هذا الفن العربي الكبير، علماً بانني في ذلك الوقت لم أكن أملك شراء بعير فليس لدي مال وليس لدي إرث ولكن الحمد الله عندما أنعم الله عليَّ حققت حلمي، وكنت صغيراً عندما قلت أول قصيدة باللغة الشعبية وكانت قصيدة هزيلة ولكن أخي ووالدي شجعاني في هذا المضمار واستشعروا محبتي للشعر، وكان والدي يستقبل أصدقاءه من كبار السن والشيبة وكنا نجلس علي الأرض وكان من بين هؤلاء الكبار من أصدقاء والدي شاعر فإذا جاء هذا الشاعر قمت له احتراماً فشكي الباقون إلي أبي.. وتساءلوا: لماذا يقف ولدك لهذا الشخص فقط احتراماً ولايقف لغيره؟.. فسألني أبي عن هذا الفعل فقلت له: هذا الشخص يختلف عن الآخرين لأنه شاعر.. فابتسم والدي وكنت لم أتجاوز في السن سبع سنين وقال افعل كما تفعل كل مرة.. وأنا منذ ذلك الوقت المبكر في حياتي، وحتي الآن أعتقد أن الشاعر شخص مختلف عن باقي مخلوقات الله له تميز خاص ومن هذا المنطلق أحب الشعراء والشعر. أما عن قصة المعاجم الشعرية التي تصدت لها مؤسسة «عبدالعزيز بن سعود البابطين» فقد عرضتها كفكرة علي أعضاء مجلس إدارة المؤسسة عام 1991 فاستصعبوها معللين الأمر أن الشعراء مخلوقات حساسة جداً، فكيف نطلب من الشاعر أن يكتب هو بنفسه سيرته الذاتية وأن يختار بعض من قصائده لكي نضمها في المعجم، فهؤلاء الشعراء يصعب الاتصال بهم ومن ثم يصعب التعامل معهم قلت لهم: هناك مثل شهير مفاده: القلوب شواهد فحبي للتعريف بهم وحرصي علي حفظ أشعارهم في معجم سيصل إليهم وبالتالي سيتعاونون معنا.. وبدأنا فعلاً عملاً مضنياً لمدة خمس سنوات كاملة يجوب مندوبينا أنحاء الوطن العربي فإذا علموا أن هناك شاعراً في قرية بعيدة ذهبوا إليه متحملين مشقة السفر للوصول إليه واستطعنا بفضل الله أن نجمع ثلاثة آلاف ومائتي وخمسة وعشرين استمارة شاعر في غضون أربع سنوات ثم بدأت اللجان في فرز هذه الاستمارات وتم اختيار ألف وستمائة وخمسة وأربعين شاعر وشاعرة ليضمهم المعجم في طبعته الأولي، التي صدرت لتحدث ضجة في المشهد الشعري ونحن لا نبيع إصدارتنا التي تجاوزت الأربعمائة إصدار ولكن نرسلها إلي الجامعات والمعاهد العلمية وإلي الباحثين وطلبة الماجستير والدكتوراة في الدراسات الشعرية والنقدية التي تقدم لهم ببليوجرافيا كاملة لعدد كبير من الشعراء العرب المعاصرين وتلقينا تقديراً وتشيجعاً للمضي قدماً من جميع رؤساء وملوك العالم العربي، وأقيمت ندوات ودراسات عديدة حول هذا المعجم وهو ما جعلني أنا وفريق الباحثين بالمعجم نرجع إلي الوراء مائتي عام لتوثيق الإنتاج الشعري العربي في تلك الفترة التي تبدأ من 1801 إلي يومنا الحالي ممن لم يذكروا في معجم المعاصرين وقد رأي أعضاء مجلس إدارة المؤسسة أن هناك صعوبة شديدة في الأمر لأن هؤلاء الشعراء أموات في قبورهم ولم يكن في زمانهم مطابع، فالشاعر العماني أو الموريتاني الفقير في ذلك الزمان كيف كان يحفظ شعره وهو غير قادر علي إرسال ديوانه إلي مطبعة بولاق في مصر ومطبعة الحلبي في دمشق، وهما المطبعتان الوحيدتان في العالم العربي، وقال أعضاء مجلس الإدارة لن يتجاوز ما سنجمعه ألفين شاعر فقلت لهم بل سيكونون بأمر الله سبعة آلاف وخمسمائة شاعر، فقالوا هذا ضرب من الخيال فقلت لا يوجد مستحيل وأي عقبة في الطريق سأزللها لكم ولكن أمضوا وعلي الله التوكل، وبالفعل شكلت لجان من جميع الوطن العربي وتم الاتصال بأهالي هؤلاء الشعراء الذين هم في ذمة الخلود واستطعنا بفضل الله وعلي مدي أحد عشر عاماً وبجهد أكثر من خمسمائة باحث عربي وغير عربي لأن هذا المعجم يضم الشعراء الذين كتبوا الشعر بالعربية من إيران وباكستان والهند وأفريقيا غيرهم وكانت المفاجأة أننا جمعنا إحدي عشر ومائتي وخمسين شاعر وشاعرة وهو معجم غير مسبوق استطاع أن يحفظ شعر هؤلاء وسيبقي لتخليد هؤلاء الشعراء باعتبارهم جزءاً من تاريخ الحضارة الإسلامية والاحتفاء باللغة العربية شعراً في خمسة وعشرين مجلد، كل مجلد لا تقل صفحاته عن سبعمائة وخمسين صفحة وتم تصنيف الشعراء فيه بحسب قيمته ومكانته الشعرية، فهناك شاعر ورد ذكره في المعجم في صفحتين، وهناك شاعر ورد في عشر صفحات، وهكذا.. وصدر هذا المعجم عام 2008 ليحدث ضجة واهتمام كبير جعلنا نتشجع أكثر ونرجع بالوراء إلي خمسمائة عام في تاريخ الشعر العربي، فبدأنا منذ سقوط بغداد عام 1258 ميلادياً الي عام 1800، وبدأنا منذ عام 2008 وحتي الآن - أي ست سنوات كاملة من العمل المتواصل - أن نجمع ما يقرب من عشرة آلاف شاعر وشاعرة، والهدف إن شاء الله أن نجمع خمسة عشر ألف شاعر وشاعرة عاشوا في تلك الفترة من تاريخ أمتنا العربية التي كان يقول عنها أعداؤنا وأعداء الأمة العربية إنها عهد تخلف وانحطاط، ولكن هذا المعجم يدحض هذه المقولة فأنت تعلمي أن الشعر مرآة المجتمع وواقعه الاجتماعي والثقافي والحضاري، فالقصيدة الشعرية العربية ديوان الحياة العربية واكتشفنا من خلال دراسة وتوثيق لآلاف القصائد التي قيلت علي لسان شعراء هذه الفترة التاريخية الممتدة نحو خمسمائة وخمسين عام أن هذه العصور العربية عصور ازدهار وفكر وإبداع ولدينا يقين الآن أن عصور العربية في الخمسمائة عام منذ 1258 وحتي 1800 كانت عصور قوة وتحضر عربية. انتهي حديثي مع الشيخ الجليل «عبدالعزيز سعود البابطين» وأنا أردد في سري ماذا لو أن رجال أعمالنا حاولوا أن يفعلوا مثلما فعل هذا الشيخ وتصدوا للنهوض بالوعي والفكر بدلاً من التكابل علي متاع الدنيا ونسيان الصدقة الجارية من أموالهم فيما ينفع الأمة العربية والإسلامية.