يغلب في أوساط أقليات الوطن العربي، العرقية والدينية والمذهبية، عدم الاطمئنان في الحاضر والقلق على المستقبل، واتساع دائرة المتطلعين للهجرة للولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وصحيح أن دافع غالبية هؤلاء الطموح لنقلة نوعية في واقعهم، إلا أن عدداً غير يسير منهم دافعهم نشدان الأمن والأمان، خاصة بعد شيوع خطاب وممارسات التكفيريين المتناقضة مع ما اعتاده الوطن العربي من سماحة الإسلام وعدله والتفاعل الايجابي الواسع بين الأكثرية العربية المسلمة وسائر الأقليات . والسؤال والحال كذلك: من يحمي أقليات الوطن العربي؟ هل هي قوى الهيمنة الأمريكية والأوروبية وأداتها الصهيونية، التي اختص مستشرقوها، منذ مطلع القرن الثامن عشر في دراسة سبل اختراق المجتمع العربي عالي نسبة التجانس والاندماج، بتسليط الأضواء على ما يميز أقلياته عن بقية مواطنيها، وتكثيف الظلال على ما يجمعها بهم . فضلاً عن توالي الحديث عن حقوق الأقليات والادعاء بأنها مضطهدة ومهمشة؟ أم إن حامية الأقليات إنما هي الأمة العربية الحاضنة التاريخية للأقليات ذات الأصول الممتدة في الأرض العربية، وتلك اللاجئة إليها طلباً للأمان كالأرمن والشركس والشيشان، والتي بينها وبين الأكثرية صلات على بعض محاور السلالة التاريخية، واللغة والثقافة والقيم، والدين والمذهب . والتي شاركت في التصدي لقوى الاستعمار والصهيونية، وساهم مبدعوها في إثراء اللغة والثقافة وسائر الفنون العربية؟ وفي الإجابة اقف بداية مع مصطلحي العروبة والأقلية، ثم مع حقائق التاريخ العربي، كي تكون الإجابة موضوعية ومتحررة من الادعاءات غير التاريخية واللاعلمية . فالعروبة لم تؤسس على انتساب سلالي للجنس العربي، وإنما على انتماء حضاري للثقافة والقيم العربية . والثابت تاريخياً توالي الهجرات البشرية من شبه جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب ووادي النيل والشمال الإفريقي، ما أوجد قرابة سلالية ولغوية بين العرب وشعوب هذه المناطق . فيما كان للتجارة الإقليمية دور محوري في حياة العرب الاقتصادية، ما تسبب في انفتاحهم على جوارهم الآسيوي والإفريقي، وأدى بالتالي إلى انعدام المشاعر العنصرية في الثقافة العربية منذ نشأتها الأولى . وقد جاء الاسلام مؤسساً الهوية العربية على الانتماء الحضاري بقول الرسول عليه السلام: "ليست العربية بأحدكم بأب أو أم، إنما العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي" قاصداً الثقافة باعتبار اللغة حاملة لثقافة الأمم والشعوب الناطقة بها . والثابت أن شعوب الهلال الخصيب ومصر وشمال إفريقيا نظرت للفتح العربي الإسلامي باعتباره محرراً لها من سيطرة الساسانيين الفرس والبيزنطيين والرومان، وقهرهم سيادتها الوطنية وعقائدها الدينية . ما أسهم في اتساع تفاعلاتهم الإيجابية مع الفاتحين، ومن نزحوا عن شبه الجزيرة بعد الفتح، بحيث اندمج الجميع في أمة عربية اللغة والثقافة والقيم وأنماط السلوك، ذات طبيعة تركيبية تضم التنوع ضمن إطار الوحدة . ولا تعتبر كل جماعة محدودة النسبة في مجتمعها أقلية، وإنما هي الجماعة المتمايزة عن الأكثرية على معظم محاور السلالة، واللغة والثقافة، والدين والمذهب، وكانت بتأثير ذلك مهمشة اقتصادياً وثقافياً، وشبه معزولة اجتماعياً . ولما كان ذلك لا يصدق بالنسبة لأقليات الوطن العربي كثر بين الباحثين وقادة الفكر من قال بأن ليس في الوطن العربي أقليات، وإنما فيه أكثريتان: عربية تضم مسلمين ومسيحيين، ومسلمة تضم عرباً وغير عرب، وبرغم ذلك في أكثر من قطر عربي من تغلب لديهم مشاعر التمايز عن المحيط والخوف في حاضرهم والقلق على مستقبلهم . ما يستدعي الإجابة عن سؤال: من يحمي أقليات الوطن العربي؟ وبالعودة للتاريخ يتضح أن المسيحيين العرب والسريان كانوا في مقدمة ضحايا غزو الفرنجة "الحروب الصليبية" لاختلافهم طائفياً عن الإفرنج . وفي ذلك يقول المؤرخ ر . س . سميل، في كتابه "الحروب الصليبية" إن المسيحيين السوريين الأرثوذكس والمنوفيزيين - كانوا قد عاشوا قروناً عدة تحت حكم الخليفة الإسلامي المتسامح على وجه العموم، وجدوا أنفسهم تحت حكم كاثوليكي إفرنجي لا يوفر لهم حرية العبادة والاعتقاد" . فيما يقول فكتور سحاب، في كتابه "من يحمي المسيحيين العرب؟" الغزو الأوروبي أوقع المسيحيين العرب في حرج شديد ألطف ما يقال فيه إنه خيَّرهم بين الوقوف مع بني دينهم والوقوف مع بني قومهم . ويبدو أن المسيحيين العرب في معظمهم اختاروا الحل الثاني . فكان المسعى الصليبي وبالاً على المسيحية العربية . ومع بداية الغزو الاستعماري الأوروبي اعتمد صناع القرار البريطاني والفرنسي استغلال واقع أقليات الوطن العربي في مشاريعهم الاستعمارية . وعليه شغل المستشرقون العاملون في خدمتهم بدراسة واقع الأقليات وتسليط الضوء على ما يميزها عن الأكثرية وتكثيف الظلال على ما يجمعها بها . فقد عملت فرنسا على إبراز "الذاتية البربرية" في المغرب والجزائر، و"الزنجية" في موريتانيا، واستغلال المشاعر الطائفية في سورياولبنان . فيما عملت بريطانيا على إبراز "ذاتية" كردية في العراق وقبطية في مصر، ففي مطلع القرن العشرين اقترح المعتمد البريطاني كرومر اعتبار الأقباط أقلية في "حماية" بريطانيا، الأمر الذي عارضته الكنيسة والنخب المدنية القبطية مجمعة على أن الأقباط جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري . وبالتالي خلت قوانين الانتخابات المصرية، وما زالت، من تخصيص مقاعد نيابية وبلدية للأقباط . خلافاً لما جرى في لبنانوسورياوالعراق والأردن . وقبل الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 . تمتع المسيحيون العرب والكلدان والآشوريون، كما الأكراد والتركمان بكافة حقوقهم المدنية وحرياتهم الدينية في العهدين الملكي والجمهوري . وفي سنة 1971 صدر نظام الحكم الذاتي لكردستان العراق واعتبرت الكردية لغة رسمية ثانية . ولم يتشرد مسيحيو العراق، ولا وضع المجتمع العراقي على عتبة صراعات طائفية ممتدة، إلا بعد الغزو الامريكي الذي عمل على ضرب أسس انتمائه القومي العربي . وفي ضوء حقائق تاريخ الوطن العربي ومعطيات واقع أقلياته يمكن القول وبكل ثقة إن العروبة هي الحاضنة والحامية الوحيدة لأمن واستقرار جمهور الأقليات ذات الوجود الطبيعي في عموم الوطن العربي . نقلا عن صحيفة الخليج