لفتت الحملة الفرنسية علي مصر الأنظار إلي أهمية موقعها الجغرافي، وبعد أن تمكن محمد علي من الوصول إلي الحكم في عام 1805 أخذ الأجانب في النزوح إلي مصر حاملين معهم العديد من عناصر النشاط الاقتصادي، وقد فضل محمد علي الفرنسيين عن غيرهم من الأجانب، خاصة أنه كان قد اتصل في شبابه بتاجر فرنسي يدعي »المسيو ليون« كان قد أخلص له وأفاده كثيراً في شئون التجارة، ومن هنا فقد استعان محمد علي بعلماء فرنسا وضباطها في بناء دولته الحديثة مما كان له أكبر الأثر في حياة البلاد، فقد تم تعيين »كلوت بك« ناظراً لمدرسة الطب التي كان معظم أساتذتها من الفرنسيين، كما أمر بتأليف لجنة منهم للنظر في تنظيم أمور المدارس المصرية، وفي ظل ظروف هذا التفاهم بين محمد علي وفرنسا أرسل معظم بعثاته التعليمية إلي معاهدها وجامعاتها كذلك ساهم الفرنسيون بخدماتهم في العديد من القطاعات، فكلف »المسيو هامون« بإنشاء مدرسة للطب البيطري، كما كلفت الطبيبة الفرنسية »جولييت« بتنظيم مدرسة الولادة واستعين بأحد الفرنسيين في مدرسة الطوبجية، كذلك عهد إلي »المسيو جومار« بالإشراف علي أول بعثة مصرية إلي فرنسا ولم تقتصر جهود الفرنسيين علي ذلك بل امتدت إلي ميادين أخري من أبرزها قيام »كلوت بك«، بإنشاء الجيش المصري الحديث، ونتيجة لإعجاب محمد علي بجهودهم فقد ألحق بعضهم بالترسانات البحرية، كما استعان بهم في تجارته، وتدرَّب علي أيديهم عدد من الشبان المصريين، وكان معظم هؤلاء من ذوي الخبرة والشهرة إذ كانوا يمدونه بكل مشورة ومساندة وقد بلغ عدد الذين عملوا في خدمة محمد علي من الفرنسيين سبعين فرداً تمتعوا بمكانة كبيرة ونفوذ علاوة علي عدد آخر من أعضاء الجالية الفرنسية التي بلغ عددها أكثر من ثلاثمائة فرنسي. ومن حسن حظ محمد علي أن الكثير من الضباط الفرنسيين الذي عملوا تحت قيادة الإمبراطور »نابليون بونابرت« وتم تسريحهم لجأوا إلي مصر وعملوا في خدمة محمد علي، وكان من هؤلاء، الضابط الفرنسي (planat) الذي أسس له مدرسة أركان الحرب عام 1825، هذا إلي جانب موافقة »شارل العاشر« ملك فرنسا علي مساعدة محمد علي في بناء بحريته وإرسال (سير يزي) خبير البحرية الفرنسية من أجل ذلك، ثم إرسال المهندس (Goudin) لإعادة إنشاء معمل البارود الذي سبق أن أسسه الكيميائيون من علماء الحملة الفرنسية يضاف إلي ذلك قيام العلماء الفرنسيين بإنشاء معمل للأسلحة وصب المدافع، وكان هؤلاء يتقاضون رواتب عالية، ومع أن محمد علي اشترط عليهم في عقود عملهم أن يطلقوا علي أنفسهم أسماء إسلامية دون حاجة إلي تغيير دينهم فإن معظمهم لم ينفذ هذا الشرط، وهكذا تكونت فئة من الفرنسيين الذين كانوا بمثابة خبراء ومستشارين في بعض القطاعات التي أسسها محمد علي كالتعليم والجيش والصناعة. وهكذا اعتمد محمد علي، علي الفرنسيين بصفة أساسية، وانتفع بخدمات رجال (نابليون بونابرت) الذين اضطهدتهم الحكومة الفرنسية عقب عودة الملكية إلي فرنسا مما كان له أكبر الأثر في تحديث مصر ومع ذلك فإن محمد علي لم يكن أسيراً لفرنسا والثقافة الفرنسية وحدها، بل استعان بجنسيات أخري ممن لديهم الخبرة في المجالات التي يتطلبها مشروعاته، فكما كان أعجوبة بالفرنسيين شديداً كان إعجابه بالإنجليز واضحاً، حيث ذكر في حديث له »أن الحاكم ينبغي أن يحذو حذو ما جعله الفرنسيون مثالاً يحتذي في مصر، وأن يقلد سلوك الإنجليز بعدهم. وعلي كل حال فقد ساهم هؤلاء وغيرهم في بناء الدولة الحديثة في مصر، وإن كانت خدمة الفرنسيين في الحكومة المصرية كانت أبعد أثراً في حياة البلاد، فلم يتوقفوا عن تقديم المساعدات اللازمة لمحمد علي وحكومته، ولم يتوقف محمد علي عن توصية أولاده وأفراد أسرته بحسن معاملتهم وتقدير خدماتهم لمصر.