حتى وقت قريب قبل ثورة 25 يناير - التى اعتبرها فاتحة ثورات مصر فى العصر الحديث - حتى هذا الوقت كنت ضمن كتيبة الأقلام المدافعة باستماتة عن حرية العقيدة وعدم الأخذ بناصية هؤلاء المنتمين للجماعات الإسلامية ومنهم الإخوان بسبب توجهاتهم الدينية، طالما أن هذه التوجهات لا تتدخل فى السياسة أو مسارات الدولة، ولا تتحكم فى تصنيف عقيدتنا الإسلامية ومنهم الإخوان، وكم طالبت بإطلاق سراح المعتقلين منهم «لا المسجونين بأحكام جنائية» إخراجهم من السجون، السماح لهم بالمشاركه كمواطنين فى الحياة السياسية والمجتمعية، وكم صببت غضب كلماتى على وزارة الداخلية، وعلى أمن الدولة وزوار الفجر وهم يقتلعون بعض الملتحين من فراشهم ويلقون بهم فى السجون لمجرد أنهم يحرصون على صلاة الفجر ويباشرون الدعوة بعيدا عن أى عمل سياسى أخذا بالمثل الشعبى «اللى اتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى»، فقد كانت وزارات الداخلية المتعاقبة منذ اغتيال السادات تأخذ العاطل بالباطل، وتعتبر كل مسلم ملتزم أو ملتح متطرفاً وله صلة بالإرهاب، فتقطعت أنفاس الأمن، وأيضا تقطعت انفاس الجماعات الإسلامية التى صعدت العنف تارة وتوارت فى السراديب تارة أخرى لتخطط للانتقام من الدولة بكل جوانبها. حتى جاء شيخ العرب، اللواء عبد الحليم موسى ليتولى وزارة الداخلية فى وقت حساس كان يضج بالعنف والتطرف وكان رحمة الله عليه أول وزير داخلية يلجأ لاستخدام الحوار وفتح باب التوبة أمام الإسلاميين من المتشددين والموصومين بجنوحهم للعنف، وكان عبد الحليم موسى قد لقب بشيخ العرب لأسلوبه الذى اشتهر عنه فى حل مشاكل المصريين فى محيط مسئولية عمله، فقد مارس الحوار قبيل توليه الوزارة عندما كان محافظا فى أسيوط، ونجح فى حل عشرات المشاكل بأسلوب المجالس العرفية ووساطة كبار البلد، وحاول تطبيق نفس الأسلوب ولكن على نطاق أوسع إبان توليه مهام الداخلية، باستخدام الحوار المفتوح مع شباب الجماعات الإسلامية على اختلاف مسمياتها تلك التى كانت تتخذ من العنف والقوة منهجا للتغير وفقا لها، وأذكر أننى فى منتصف عام 90 سألت شيخ العرب فى أحد اللقاءات الكثيرة التى كانت تجمعنى به كمندوبة الجريدة لدى الوزارة فى حينه، سألته «كيف تدعو لمحاورة إرهابيين؟ فقال لى ما معناه اتباع سياسة الباب المفتوح أقصر الطرق لعلاج المشاكل وتجنب المفاجآت، أنا أحاور مصريين من أبناء بلدى وليسوا دخلاء عليها، لو نجحت فى إقناعهم باتخاذ الحوار السلمى كوسيلة للتعبير والمشاركة، كسبت ثوابا عظيما فى دينى وبلدى، وإن لم أنجح، فقد كسبت شرف المحاولة، وسيجدون القانون والشعب لهم بالمرصاد». والشهادة لله وللتاريخ نجح شيخ العرب فى تحويل مسار العديد من الشباب المتطرف، ووقف على أول الطريق لتغيير الأفكار المتشددة الدخيلة على روح الإسلام السمح المعتدل، بل وحاول الاستعانة بشيوخ الاسلام المشهور عنهم الاعتدال والحكمة وفى مقدمتهم المرحوم متولى الشعراوى لمحاورة شباب الجماعات الإسلامية، لكنه كان عاثر الحظ لعدة أسباب، منها انه تولى الوزارة بعد وزير عرف بالدموية والعنف وهو زكى بدر الذي كان له مريدوه وأعوانه من جناح الصقور داخل وزارة الداخلية واستمروا بعده فى عهد شيخ العرب، وهؤلاء عملوا بقوة على إفشال منهج الحوار السلمى كبديل عن القمع حيث اعتاد هؤلاء النفخ فى الزبادى، وطبقوا دوما أسلوب «اضرب المربوط يخاف السايب». والسبب الثانى ان القيادة السياسية المتمثلة فى نظام مبارك لم ترغب فى الحوار مع هذه الجماعات أو مشاركتها السياسية أو المجتمعية سواء هى أو غيرها من الفصائل السياسية، لرغبتها فى الانفراد بالحكم، فعمل النظام على إبقاء كل الجماعات الإسلامية بمن فيهم الإخوان داخل الشقوق وخلف القضبان مع تصفية بعض رؤوسهم، لإظهار قوة الدولة، وبالفعل تصدت القيادة السياسة لسياسة شيخ العرب، وتوج هذا التصدى بقيام عناصر الأمن فى 2 أغسطس عام 90 بقتل المتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية علاء محيي الدين، وهو ما كان بداية النهاية لمنهج شيخ العرب فى الحوار السلمى، وتأججت المعارك الدموية بين أجهزة الأمن والجماعات المسلحة الإسلامية وكان أبرزها أحداث قرية الخرقانية، وخططت الجماعة لاغتيال شيخ العرب نفسه اتباعا بدورها لسياسة «النفخ فى الزبادى» بعد ان «اتلسعت» من بعض رجال الأمن، للانتقام منه بوصفه المسئول الأول عمن قتلوا متحدثهم الرسمى، وبالفعل جاءت لحظة تنفيذ الاغتيال، إلا أن شيخ العرب كان لعمره بقية، ودفعت الأقدار برئيس البرلمان السابق د. رفعت المحجوب للمرور بنفس الطريق الذى كان سيمر به موكب عبد الحليم موسى، فاغتالته الجماعة الإسلامية وهى تعتقد أنها اغتالت الرجل الذى مد يده لها بالسلام والحوار، ثم لم يف بوعده «وفقا لتقديراتهم» فترك رجاله يغتالون متحدثهم الرسمى. وهكذا انقلبت الصورة تماما، توقف الحوار السلمى مع الجماعات الإسلامية، وبدأت لغة العنف المتبادل من الطرفين، وباتت الشرطة تمارس أعمال القتل والاعتقال ضد كل من له صلة بهذه الجماعات من قريب أو بعيد «نفخا فى الزبادى»، وتولدت بالتالى عداءات لدى هذه الجماعات ولدى أبنائها وأصبحوا يتحينون الفرص للانتقام من كل ما له صلة بالدولة «أيضا نفخا فى الزبادى»، ومن كل غير المنتمين الى فصائلهم، حتى جاءت الفرصة بصعود الإخوان وتصدرهم المشهد بسرقة ثورة 25 يناير، فأصبحوا ينفخون فى الزبادى لتصفية كل خصومهم أو من يعتقدون فيه الخصومة للانفراد ايضا بالسلطة حتى تقطعت أنفاسهم مبكرا قبل مضى عام، والآن يعيد التاريخ نفسه كما كان فى التسعينيات..سينفخ هؤلاء وينفخ هؤلاء فى الزبادى بأخذ العاطل مع الباطل.. إلى ان تتقطع أنفاسهم وأنفاس الوطن.. هل وصلت الرسالة..؟