حين تنهار أحلام الشعوب وتختنق مطالبها على أسوار الواقع، تتأجج نيران الصراع بين أبناء الوطن، فتتعلق ذاكرتهم بين ملامح عهد ثقيل، وآمال ثورة قد تغير تشوهات الماضي ..ولكن ما بين حلم الشعب المتعطش للحرية، وحسابات السياسيين الخاصة.. تفتت ثورات الربيع العربي. وكما كان التاريخ شاهداً على ضعف وتآكل أنظمة الحكم في تلك البلاد .. كشف لنا اليوم عجز المعارضة والقوة الشعبية في الوصول لسقف الوحدة المتماسكة، فكانت النتيجة أن صارت ثورات الربيع العربي فريسة استغلال اللوبي الصهيونى والأمريكى لهدم رياح الحرية والديمقراطية.. فإذا بشعوب العرب منقسمون حول مسلماتهم ، وصار الاستقطاب بينهم هو "أسلوب الحياة". لقد كان انقسام الشارع المصري هو الأساس الذى لعب عليه حكم مبارك، فقد شغل المصريين بأولوياتهم الحياتية في الحصول على كسرة خبز أو أنبوبة غاز، وتركهم فريسة السعى وراء لقمة العيش، فانشغلوا بصغائر الأمور لأكثر من ثلاثة عقود، فنصّب نفسه جلاداً على رقاب الشعب .. وما أن خرجت الملايين لإسقاط طاغية مبارك وفاشيته الذي سيطر على مقدرات الشعب ، بدأ مصطلح "الفلول" في التبلور على ألسنة المصريين ك"وصمة عار" لكل من عبد "الفاشية المباركية"، ولكل من شرب من إناء النظام قريباً كان أم من بعيد..رافضين وجود تلك الفئة الجديدة على الساحة السياسية المصرية مرة أخري بعد أن التهمت خيرات الشعب وأخرصت الألسنة بسيطرتها على مجريات السياسة من خلال "الحزب الوطنى المنحل" ، فأصبحت مساحة الانقسامات بعد الثورة لا تتجاوز منطقة الثوار والفلول، وكانت تلك هى بداية قصة الصراع بين نظام سقط، ودولة جديدة تحاول أن ترسي قواعدها. تعددت أوجه صراع فلول مبارك مع الشعب ، فما بين المناوشات والمشادات الكلامية بين الفريقين، كان انتقام الثوار من تلك الفئة هو المتصدر في تلك المشاحنات، بينما كان هدف الفلول هو تدعيم وتثبيت جذورهم الطامعة من جديد على أنقاض الشعب .. ورغم أن مصطلح "الفلول" في لغتنا العربية متعلق ب"الانكسار والهزيمة"، إلا أن الشعب المصري ما زال يخاف من فلول النظام وكأنهم ما زالوا فى السلطة، بل وكأن يدهم ما زالت اليد العليا في الوطن. بعد إسقاط النظام "المباركى" وانحياز القوات المسلحة للشعب، سطرت صفحة الوطن بداية جديدة للشعب المصري، لكن سرعان ما تناثرت دماء أبناء الشعب على تلك الصفحة البيضاء ، وكأن القدر أبي أن يسطر نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير.. فبعد مذبحة محمد محمود وماسبيرو، كانت انتهاكات العسكر المتتالية .. وكان انقسام الشارع من جديد، فأعلن معظم الشعب المصري ووقوفه أمام جبروت العسكر في حق أبناء وطنه.. وكانت تلك هى البداية الجديدة لصراع أخر ظل محتدم حتى وقتنا هذا، صراع بين أعمدة الوطن (الشعب، المجلس العسكري، الفلول من جديد). ففي محاولة لإضعاف الموقف الثورى، وقف فلول مبارك في صف العسكر لمواجهة الشعب، فتحولت الهتافات من"الجيش والشعب ايد واحدة" إلى "يسقط يسقط حكم العسكر".. فأصبحت معركة الشعب المصري مع مؤيدي المؤسسة العسكرية ، ومع فلول الوطنى المنحل.. فبالرغم من الحالة الضعيفة التى وصل إليها الفلول، إلا أنهم مازالوا يناضلون من أجل إفشال الثورة، لكى يعودوا إلى السلطة من جديد أقوى مما كانوا وأشرس. وبعد عام من الإنتهاكات المتتالية وفض التظاهرات بالقوة والاعتداء على المواطنين وسحلهم وضربهم تحت رايات حكم العسكر ..كان الخروج الأمن بالانتخابات الأسطورية التى ترشح فيها 13 مرشحًا، وانتهت بوجود اثنين منهم فقط على الساحة الانتخابية ، أحدهم يمثل الفلول، والآخر يمثل التيار الإسلامى.. ولنتيجة الصراع الذي ظل محتدماً لأكثر من عام كامل بين الشعب والفلول كانت النتيجة هى انحياز الشعب للتيار الإسلامى خوفاً من عودة الفلول لكرسي الرئاسة وكأن الثورة لم تقم. ولكن منذ أن تولى تنظيم الإخوان مقاليد الحكم في مصر، بدأ الحديث عن الانقسام والاستقطاب ينتشر في الشارع المصري، وأصبح المصريون منقسمون بين مؤيد ومعارض، والكل يدافع عن موقفه، ولا يقبل عنه بديلا، مطبقين المقولة الشهيرة"من ليس معي فهو ضدي".. فتنامى العداء بين أفراد الشعب المصري، وحتى داخل الأسرة الواحدة، وأصبح المشاجرات السياسية أمرا عاديا، حتى داخل البيوت المصرية.. وساهمت القنوات الخاصة والدينية التى لمعت بعد حكم الإخوان في زيادة حدة الصراع بين التيار الثورى والإخوانى، لقد انصرف كل من الطرفين إلى تشويه سمعة الآخر. فالقنوات التلفزيونية الخاصة بالإخوان راحت تبث برامج مؤججة للمشاعر، تظهر فيها المعارضة بأنها منحطة أخلاقياً ومعادية للإسلام. وتبادل الجانبان الأوصاف التي تصوِر الآخر بأنه تهديد وجودي، ولكن في الوقت نفسه - وفي موقف متناقض- بأنه جماعة صغيرة هامشية في مقابل الأكثرية الواضحة التي يدعي كل طرف امتلاكها. فقد زعم كل منهما أنه ممثل "الشعب". وبعد عامين وأكثرمن ثورة الخامس والعشرين من يناير، تحولنا إلى شعب مقسم طوائف ما بين إسلاميين يريدون إجهاض أى عصيان وتمرد، وما بين ليبراليين تعبوا من تكفيرهم وإقصائهم وتمكين الإخوان على حسابهم، زاد الغضب وعلا سقف المطالب.. لذا فقد كان قرار الشعب في 30 يونيو بانتهاء مشروع الإسلام السياسي الذي قاده تنظيم الإخوان، في محاولة لتوحيد صفوف أبناء مصر من جديد بعد أن انقسموا ل"فلول، عسكر، إخوان" .. ولكن كانت الأحداث التى مرت على مصر بعد ثورة يونيو كافية بزيادة الشروخ والجروح وكأنها ال"قشة التى قسمت ظهر البعير"..فلم يكن المصريون في حاجة إلى انقسامات جديدة بعد ثورة يونيه وكانت الأحداث التي مرت علي مصر كافية لأن تفتت جموع هذا الشعب لكي يتحول إلي شظايا متناثرة لم تمتد فقط في الشوارع والميادين الكبري في المدن ولكنها تسللت إلى القري والنجوع حتي وصلت إلى البيوت الطينية الصغيرة القابعة في أعماق الريف المصري العتيق. هنا عادت موجات الانقسام تجتاح حياة المصريين مرة أخرى ووجدنا أنفسنا أمام ثورتين. وأمام أكثر من فصيل سياسى وبدأت رحلة الاتهامات تجتاح حياة المصريين مرة أخرى. كما لو كانت هناك قوى خفية تسعى إلى تعميق الانقسام .... ليبقَ السؤال "إلى متى تظل الدولة التى قدمت ثورتين في أقل من ثلاثة أعوام في مخلفات الأمم؟..ومتى يتوحد أبناء مصر تحت سقف راية وشعار واحد، فيكون الهدف الأسمى هو مصلحة الوطن؟".