بعد قيام ثورة يوليو 1952 شهدت الطبقة الوسطى نمواً كبيراً، بسبب السياسات الاقتصادية للنظام الجديد، وتطبيق قوانين وإجراءات بعينها، مثل الإصلاح الزراعي، والتأميم، ومجانية التعليم، وتحديد إيجارات المساكن، والتزام الدولة بتعيين جميع خريجي الجامعات، وحملة المؤهلات المتوسطة، في الحكومة، وشركات القطاع العام. فصبت محصِّلة هذه الإجراءات، في صالح توسيع رقعة الطبقة الوسطى، عبر هبوط عدد كبير من عناصر الطبقة العليا، وصعود عدد كبير أيضاً من عناصر الطبقة الدنيا. إلا أن الاتساع الكبير لحجم الطبقة الوسطى قد أخلّ بتجانسها، وغيّر كثيراً من خصائصها التي اتسمت بها في فترة ما قبل يوليو 1952 من جهة، كما أنه قضى على روح المبادرة لديها من جهة أخرى، حيث ترسّخ الشعور لديها بالولاء الشديد للدولة، والإذعان الكامل لها، كونها تربّت في كنفها، وترعرعت في ظل رعايتها، مما أضعف كثيراً من فاعليتها السياسية، وزاد نظام الحزب الواحد- أو التنظيم الشمولي الأوحد - الطين بِلَّة، بمناخ الانتهازية السياسية الذي خلقه، مما أسهم في وصول كثيرين إلى مراكز السلطة وصنع القرار، ممن لا يمثلون مصالح الشعب، بقدر ما يمثلون مصالحهم الخاصة، كما أدى إجهاز ثورة يوليو 1952 على التجربة الحزبية التي سبقتها، وتدشينها لنظام الحزب الواحد، إلى تجفيف الحيوية السياسية التي اتسمت بها الحقبة شبه الليبرالية التي سبقتها، وهو الأمر الذي انعكس بآثار سلبية على الطبقة الوسطى. ولقد مكَّن الاستبداد السياسي لنظام يوليو، ونزعته "الأبوية" تجاه حركة المجتمع من ضرب الطبقة الوسطى، عندما رفعت الدولة يدها عنها في السبعينيات، بتخليها عن دورها الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تمارسه في الستينيات، باتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي واقتصاد السوق، وما تبعها من فتح أبواب الهجرة والعمل في بلاد النفط، مما أحدث خلخلة طبقية كبيرة في المجتمع المصري، دفعت الطبقة الوسطى الجزء الأكبر من ثمنها. فتدفقت أعداد كبيرة من الطبقة الدنيا إلى صفوفها، فازدادت درجة عدم تجانسها، وأصبحت آلية الصعود الاجتماعي هي ممارسة الأنشطة الريعية وليس الإنتاجية، مثل أعمال التجارة، والوساطة، والحرف اليدوية، وهي أعمال لا تحتاج إلى مؤهلات علمية، كما أنها لا تعتمد على بذل جهد كما هو حال الأنشطة الإنتاجية. كما ظهرت طبقة رأسمالية جديدة، ليست كالطبقة الرأسمالية الأرستقراطية قبل ثورة 1952، ولكن الطبقة الجديدة ظهرت بشكل مباغت، وأحدثت ثروة كبيرة في فترة وجيزة، وتكوّنت من كبار البيروقراطيين في القطاع العام من ذوي النزعة الانتهازية، الذين هتفوا لسياسة الانفتاح في السبعينيات كما هتفوا من قبل للسياسات الاشتراكية في الستينيات، بالإضافة إلى رجال الأعمال العائدين من بلاد النفط بعد هجرة اضطرارية لأسباب سياسية، وقد عادوا ليطبقوا أنماط الاقتصاد الاستهلاكي - وليس الإنتاجي - الذي مارسوه في تلك الدول، كما ظهرت لاحقاً شريحة "أثرياء المعونة الأمريكية" بعد اتفاقية كامب ديفيد والتي تشكلت من وكلاء الشركات الدولية الكبرى في مصر، ومع الوقت تضخّمت هذه الشريحة، وتمدد دورها السياسي، لتكون الرافعة الأساسية لمشروع "التوريث" فيما بعد.