كما أشرنا فى المقال السابق، نحتاج إلى أن نَمْضِى مع الصيام فى معناه اللغوي؛ لنرى أننا بحاجة إلى الصيام عن أشياء كثيرة، بخلاف الطعام والشراب، كما هو معنى الصيام فى الشرع. فنحتاج إلى أن نصوم عن التجرؤ على الدين، وإبداء الرأى فى أحكامه دون علم، ودون استيفاء الشروط والضوابط؛ فالدين ليس كلأً مباحًا، وإنما هو علم وتخصص كأى علم وتخصص، بل يجب أن تكون له منزلة فوق ذلك؛ فإن من يتقوَّل على الله دون علم يأثم وله عقاب.. فكيف لو كان ذلك مصحوبًا باستهزاء أو طعن أو تجريح. نعم، حرية الفهم والرأى مكفولة، متى صدرت عمن هو أهل لذلك، أو صدرت على سبيل التساؤل والاستفهام؛ وليس الطعن والاستهزاء.. وإلا، فهل نقبل من غير الطبيب، مثلاً، أن يجرى عملية جراحية لمريض، ثم نعذره حين يخطئ ويتسبب فى مضاعفة معاناة المريض أو وفاته! إن شأن الدين ليس أهون من ذلك! ودواء عدم المعرفة هو التعلم والسؤال، لا التطاول. نحتاج إلى أن نصوم عن العشوائية فى سلوكياتنا، ليحل محلها التخطيط والدراسة، والانطلاق من قواعد البحث العلمى والمنهجية المنضبطة؛ فنتجنب وقوع المشكلات وتراكمها، ونستطيع أن نسهم بفاعلية فى دفع عجلة التنمية والحضارة إلى الأمام. الحضارات لا تُبنى إلا بالعلم والتخطيط والمنهجية؛ والمعرفة لا تتراكم إلا بهذا، والإنجاز لا يتحقق أبدًا بالعشوائية.. ولنا فى الكون الذى خلقه الله تعالى عبرة، وأى عبرة! إنه بناءٌ محكم متقن: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88). فيجب أن يكون «الإتقان» عنوانًا لحياتنا، بما يستلزمه من تخطيط ودراسة. نحتاج إلى أن نصوم فى معاملاتنا عن كل شبهة أو محرم؛ فلا رشوة ولا اختلاس ولا غش ولا خيانة؛ وإنما أداء للحقوق، وصون لأموال الناس وأعراضهم، وصدق وأمانة ووفاء. المعاملات هى الجانب الذى يبين حقيقة الإنسان. وحين يَصْدق الإنسان فيها ويعامل الناس كما يحب أن يعاملوه؛ فإن ذلك يدل على حسن أخلاقه، ويؤكد التزامه الحقيقى بما يزعمه من مبادئ.
