كان خبرا مفاجئا وسعيدا في نفس الوقت قرأته وأنا غير مصدق عيني ذلك الخبر مفاده ان المخرج الأمريكي المخضرم »سيدني لا ميت « في سبيله وهو علي اعتاب الخامسة والثمانين إلي الإبداع فيلمه الثالث والأربعين. ولم تمض سوي بضعة شهور علي قراءة الخبر المفاجئ السعيد، حتي كان فيلمه هذا يعرض في دور السينما تحت اسم غريب كل الغرابة »قبل ان يعرف الشيطان بخبر موتك « »2007«!! وبعد فيلمه الاخير، لم يمهله الموت طويلا. جاءه قبل بضعة ايام في نيويورك، وتحديدا في التاسع من ابريل وتلك المدينة عاش معظم سنواته الخلاقة في احضانها، مكرسا أروع افلامه لبيان أوجه الفساد الاجتماعي فيها، وبخاصة ما كان منه متصلا بفساد الشرطة واجهزة الإعلام لا سيما الصندوق الاسود الصغير، المتعارف علي تسميته بالتلفاز. وكعهدنا بصانعي الأفلام العظام بدأ مشواره السينمائي بفيلم بشر بمولد مخرج صاحب رؤية يريد التعبير عنها بلغة السينما ذلك الفيلم شاهدته في إحدي دور السينما بالقاهرة، قبل اربعة وخمسين عاما اسمه »اثني عشر رجلا غاضبا« بطولة »هنري فوندا« الممثل ذائع الصيت ورغم انه أول فيلم له إلا انه وجد نفسه مرشحا معه لجائزتي أوسكار افضل فيلم ومخرج، متنافسا من أجل الفوز بهما، مع مخرجين اصحاب حاض ماض مجيد مثل »بيلي ويلدر« و»دافيد لين« بعد ذلك تمر الايام اعواما بعد اعوام يخرج خلالها العديد من الافلام التي رسخت قدمه، بوصفه من تلك الفئة القليلة من السينمائيين الممتلئ وجدانها بالاحساس بعصرها علي نحو تري معه صورته الظاهرية واعماقه معا ومع رسوخ قدمه جاءته الشهرة، صلبة رصينة وتتأمل وتنافس وتزداد عمقا واتساعا علي مر الزمان فجري ترشيحه لأوسكار افضل مخرج، اربع مرات وكان أحد اثنين فقط هو والمخرج الفرنسي »جان لوك جودار« منحهما اتحاد نقاد الفيلم بنيويورك جائزة عن مجموع ما أنجزاه سينمائيا، وذلك النوع من التكريم لم يحظ به أحد سواهما منذ انشاء الاتحاد، قبل ستة وسبعين عاما. والاهم انه نال شهرة واسعة في صفوف نجوم السينما قوامها براعته الفائقة في تحريك الممثلين والممثلات علي نحو يؤدون معه أدوارهم، بحيث لا تصدر من أحد منهم حركة، أو نبرة فيها غلط أو نشاز. فمن حسن حظه ان افلامه الخمسة الأولي قد شارك بأداء الأدوار الرئيسية فيها ممثلون وممثلات في قامة »هنري فوندا« و» صوفيا لورين« و»مارلون براندو« و»انا منياني« و»كاترين هيبورن« فلا أحد منهم إلا وفاز بأفضل ممثل وممثلة بل ان من بينهم اثنين فازا »براندو« بجائزتين و»هيبورن« باربع جوائز أوسكار. وتعد سبعينيات القرن الماضي العقد الذي بلغ فيه المخرج الراحل أوج مجده ، بفضل ثلاثة افلام حققت نجاحا كبيرا هي »سيربيكو« 1973 »فبعد ظهيرة يوم الكلب« و» شبكة التليفزيون« 1976 والافلام الثلاثة مشحونة بغضب عارم، مسكونة به علي نحو غير مسبوق فبطلا الفيلمين الأول والثاني يلعب دورهما »آل باشينو«. وفي كلا الدورين نراه غاضبا مرة متقمصا شخصية ضابط يحاول تعرية الفساد في صفوف رجال شرطة نيويورك ولكن دون جدوي ومرة ثانية متقمصا شخصية لص هاو، ليس له ماض في الاجرام، يقتحم مصرفا في نيوريوك لسرقته تحقيقا لغرض في نفسه. أما في »شبكة التليفزيون« فالغضب يصل إلي ذروته في شخص مذيع اصابته الاوضاع الاجتماعية المتردية في نيويورك بمس من الجنون تجلي في اعترافه لمشاهدي برنامجه علي الهواء، وبشكل مفاجئ انه عقد العزم علي الانتحار امامهم وحدد لذلك موعداً لا رجوع فيه بأي حال ويتصاعد الغضب، علي نحو يؤثر في مشاهديه فيصابون بعدواه ، ينصاعون إلي دعواه بفتح النوافذ في وقت واحد، والصراخ بما يفيد انهم جنوا ، ولا يستطيعون صبرا علي ما هم فيه من هم مقيم. خلاصة القول انه في ضوء هذه الافلام وغيرها، يبين بوضوح ان المخرج الراحل كان هو الآخر مسكونا بغضب من فساد الاحول في مدينة لا تعبد إلا المال، وان غضبه عمره طويل.