أنتمي إلي فصيلة المستشارين بعد أن أفنيت عمري في العمل العام، أحصِّل العلم وأدرسه ثم أطبقه عملياً في ظروف عمل مختلفة وفي ثقافات مؤسسية متباينة في مشروعات معظمها والحمد لله نجح في حل المشكلات جذرياً وبعضها نجح في ذلك جزئياً والبعض - وهذا طبيعي جداً - في كل نشاط يقوم به الإنسان لم يحقق الغرض منه علي الإطلاق.. تعلمت في «ورشة الحياة» أن كلمة استشاري تعني بالدرجة الأولي شخصاً علمته الحياة أكثر بكثير مما تعلم في قاعات الدراسة حتي وإن حصل علي أرفع الدرجات العلمية، وأن ما يشير به لابد وأن يكون قابلاً للتطبيق مراعياً للظروف آخذاً في الحسبان الثقافة العامة التي سوف يصدر بها القرار والإمكانات المتاحة التي تضمن نجاحه والخطط البديلة لردود الأفعال المحتملة للاستعداد لها ومواجهتها.. وحين أطبق كل ذلك علي ما حدث ويحدث في مصر الآن لابد وأن يصيبني نوع من زعزعة اليقين فيما تعلمت ويجعلني أتوقف عند مواقف ومشاهد أنوي أن أجعل منها منطلقاً استفيد منه ويضيف إلي رصيدي العملي في مخزون التنمية الذاتية الذي صاحب مشوار حياتي حتي الآن. الرئيس يصدر إعلاناً دستورياً يختلف حول مواده فقهاء القانون: بعضهم يري أن من حقه أن يحصن قراراته ويستشهدون بمواد أول دستور للبلاد في عهد عبدالناصر يحصن قرارات مجلس قيادة الثورة بألفاظ وعبارات تكاد تكون نسخة طبق الأصل مما ورد في الإعلان الدستوري الذي كاد أن يضع مصر علي شفا جرف هار ليس له قرار، والبعض يرفضه جملة وتفصيلاً ويري فيه ردة عن الديمقراطية واعتداء سافراً علي السلطة القضائية، وتأصيلاً لديكتاتورية الحكم.. معظم مستشاري الرئيس صرحوا بأنهم لم يعلموا عن الإعلان شيئاً ومعهم وزير العدل وهو شيخ من شيوخ القضاء الأجلاء، وبعضهم احترم نفسه واستقال.. إذن الرئيس اتخذ القرار المصيري الخطير وحده دون أن يستشير أحداً ممن اختارهم بنفسه لكي يشيروا عليه بالرأي - وهو غير ملزم له علي أية حال - ثم يتخذ هو القرار الذي يراه صائباً بعد ذلك ويتحمل مسئوليته.. ولكن: هل صحيح أنه لم يستشر أحداً؟.. أشك كثيراً في ذلك، فلا يمكن أن تصاغ وثيقة قانونية خطيرة بهذا الشكل دون أن يتولي ذلك خبير ومتخصص ودارس وممارس يعرض علي الرئيس أكثر من مسودة ويجري كثيراً من التعديلات لكي تصبح الوثيقة جاهزة للتوقيع قبل إعلانها والعمل بها. لماذا لم يخرج الرئيس علي الناس قبل - وليس بعد - الإعلان لكي يشرح للشعب ما الذي اضطره إلي اتخاذ التدابير الواردة به؟.. ولا أقول هنا إن ذلك كان سوف يمنع أو حتي يخفف من المعارضة وإنما اتحدث عن ضرورة احترام الأمة والاستقواء بالشعب وليس فئة أو جماعة مهما كان قربها أو بعدها عن الرئيس.. في النهاية هناك حدود لسلطات الرئيس لا يمكن له أن يتجاوزها حتي في غياب السلطة التشريعية والدستور.. إذن لم يحدث تمهيد للإعلان يشرح مقاصده وارتباطه بتحقيق أهداف الثورة وربما الحفاظ علي الأمن القومي للبلاد أو حمايتها من خطر داهم يتهدد أمنها وسلامتها أو وحدتها الوطنية.. الرئيس إذن بحاجة إلي خبراء في العلاقات العامة والرأي العام يساعدونه كما يحدث بالخارج علي الظهور بمظهر الرئيس القوي المسيطر علي الأمور الواثق من قراراته ويختارون له التوقيت المناسب والوسيلة الملائمة لكي يتقبل الناس ما يقول ويتوقعون ردود الأفعال المختلفة ويجهزون له الردود المناسبة عليها. القوي الوطنية والائتلافات والأحزاب هي الأخري لا تؤدي ما أتوقعه منها في ظرف خطير تمر به البلاد، ولا يتصرفون بمسئولية من استشعر هذا الخطر وحاول بكل ما لديه من أدوات أن ينزع الفتيل عن قنبلة هائلة سوف تنفجر في وجوهنا جميعاً.. تباينت المواقف والبيانات والأدوار وتكاثرت منابر الخطابة وتنافس أصحاب الكلمة علي الميكروفون فيما بدا أنه تصفية حسابات بدلاً من توضيح أبعاد المشكلة وتداعياتها وطرح سبل الحل.. كنت أنتظر أن تكون تلك القوي وفداً منهم يطلب مقابلة الرئيس بصفة عاجلة.. ويعلنوا ذلك علي الناس، ثم يذهبوا لمقابلته وإعلان اعتراضهم ومعهم البدائل التي يقترحونها لإدارة الأزمة وحلها، بدلاً من أن يتركوا انطباعاً لدي قطاع كبير من الناس بأنهم لا يجمعهم إلا هدف واحد هو إسقاط الرئيس، ولقد فعل ذلك علي أية حال مجلس القضاء الأعلي وهم القادة الحقيقيون لحصن العدالة في مصر. أما ما آلمني حقيقة أكثر من أي شيء آخر فهو قطاع كبير من القضاة الذين انشغلوا بالسياسة ففقدوا - وهم يعلمون ذلك يقيناً - صلاحياتهم وظهروا في اجتماعاتهم يجلس علي منصتهم عدد ممن وردت أسماؤهم وقدمت فيهم بلاغات المفروض أنها قيد التحقيق في تهم خطيرة وجنايات قتل الثوار ويصدرون توصيات تمس محراب العدالة وتغلق أبوابه في وجوه المتقاضين تسجيلاً لاعتراضهم علي الإعلان الدستوري.. وفي المقابل كان هناك قطاع آخر من القضاة يعارض مواقف هؤلاء ويرفض أن ينصاع للقرارات التي اتخذوها ويفضلوا أن يستمروا في أداء رسالتهم النبيلة وألا يعطلوا مصالح الناس وأن يقدموا الحجج علي تأييدهم للإعلان الدستوري ومبرراته.. وكما قلت في مناسبة سابقة للاحتفال بعودة النائب العام أكرر إنني كنت أتمني أن يكون اجتماع القضاة في نايدهم يتناسب مع صورة الوقار والهيبة في أذهان الناس للقاضي يرتدي وشاح العدالة ويحكم فيما يعرض عليه ويعلنه بنفس الجلال والهيبة والوقار.