كارثة في المعمل المركزي للمبيدات بوزارة الزراعة.. عشرات الباحثين يواجهون الموت يومياً.. سموم وروائح تصيبهم بالفشل الكبدي والكلوي وتزرع داخل أجسادهم النحيلة السرطان القاتل.. بعضهم خسر حياته إلي الأبد والآخر لايزال يقاوم. هنا في شارع نادي الصيد بالدقي يحاول 300 باحث إنقاذ المصريين بالأبحاث والدراسات وبرامج الوقاية، ولكنهم يعجزون عن حماية أنفسهم والسبب ضعف الإمكانيات والإهمال لكل من يطلق عليه باحث.. هكذا قدرهم في دولة لا تقدر مكانة العلم والباحثين. في مكان لا تزيد مساحته عن أمتار معدودة تم حشرهم كأسماك السردين في علبة ضيقة للغاية.. يتنفسون بصعوبة ولا تفارق البخاخات يدهم.. ولا يمر يوم إلا ويتابعون طبيباً.. فمن هذا المكان خرج العالم والدكتور محمود سمير عبدالفتاح الشاهد الرئيسي ضد الدكتور يوسف والي، خرج ميتاً بعد أن قال: »لا« لأخطر وزير زراعة عرفته مصر.. وفي هذا المكان »القبر« لا يلتزم أحد بالأدوات الواقية فلا كمامة ولا نظارة ولا بالطو ولا أحذية واقية والنتيجة أمراض خطيرة أجبرت معظمهم علي حمل بخاخات الحساسية الصدرية، فيما اكتوي الآخرون بأمراض سرطانية مميتة قضت علي أكبادهم ودمرت حياتهم بالفشل الكلوي. والدكتور محمود سمير عبدالفتاح أمين لجنة المبيدات في عهد يوسف والي هو بطل الكشف عن قضية المبيدات المسرطنة التي أدلي فيها بشهادته ضد كل من: الدكتور يوسف والي، وذراعه اليمني يوسف عبدالرحمن رئيس بنك التنمية والائتمان الزراعي الأسبق، واعترف في شهادته أمام المحكمة أنهما مسئولان عن ادخال المبيدات المسرطنة، وهو أيضاً الذي رفض التوقيع لادخالها إلي مصر بصفته أميناً للجنة المبيدات وقتها، وكان ذلك أحد أسباب اضطهاده.. ولم ينس »والي« الرجل الذي شهد ضده فحرض رجاله بوزارة الزراعة ضده فسحبوا اختصاصاته حتي مكتبه الذي كان يجلس عليه نزعه منه رجال يوسف والي - حسب شقيقه المهندس عادل - الذي أكد أن آخر العبارات التي كان يرددها بعد إصابته بالسرطان هي عبارة »حاولت أن أمنع دخول المبيدات المسرطنة إلي مصر لحماية المصريين من السرطان فأصابتني أنا«. وتولي عبدالفتاح أمانة لجنة المبيدات منذ عام 1992 وحتي عام 1997 وعبد الفتاح هو رائد القرار الشهير رقم 874 لسنة 1996 والذي حظر 47 مبيدا من المبيدات المحظورة دولياً، فداخل الغرفة 202 بالمعمل المركزي للمبيدات كان يجري عبدالفتاح تجاربه المعملية دون أي أدوات وقاية تحميه، وحسب فتحي محمد عبدالفتاح ملاحظ فني بالمعمل المركزي للمبيدات: كنا شغالين بالبركة، ونظراً لضعف الإمكانيات كان يستخدم فمه كبديل للماصة التي تشفط المبيد إلي أعلي الزجاجات المعملية. ويحكي فتحي عن الاضرار التي أصابته هو شخصياً نتيجة التعامل مع المبيدات بعد 33 عاماً من العمل داخل المعمل قائلاً: "أجريت جراحة في القفص الصدري الأيمن وزوجتي هنية سعد جبر إدريس كانت تعمل معي في نفس المعمل، لكنها أصيبت بمرض جلدي مزمن بدأ معها بمرض الصدفية مازالت تعالج منه حتي الآن بمستشفي الحسين الجامعي نتيجة التعامل مع المبيدات بعد خدمة استمرت 20 عاماً "إحنا بنموت بالبطيء". أشرف فتحي فني معمل: طموحي مات وأصبحت عجوزاً قبل الأوان.. فقدت حاسة الشم وتحدث لي انفجارات دموية من الخصية بسبب المبيدات. أما أشرف فتحي فني معمل »42 عاماً« فالهزال والضعف أحد أهم الملامح التي تستطيع أن تلتقطها بمجرد النظر في وجهه وعندما يتحدث تحسبه متسابقاً في ماراثون لمسافات طويلة، رغم أنه جالس في مكانه لم يتحرك. قال أشرف: "عملت لمدة 11 عاماً داخل المعمل أصابني خلالها مرض الكبد، وفقدت حاسة الشم تماما"، أجريت عملية جراحية لإزالة الغضاريف والحاجز الأنفي، وأصابني مرض غريب لم يعرف الأطباء أسبابه يتسبب في حدوث انفجارات دموية تخرج من الخصية وأماكن متفرقة من جسدي، مشيراً إلي أنه لا يوجد أي وسائل للأمان لحماية العاملين والباحثين بالمعمل. كما لا يوجد صيانة كافية لجهاز "الهود" المخصص لحفظ المبيدات حتي لا تتسرب إلي الباحثين وتضرهم، وهذا الجهاز لم يتم تغييره منذ عام 1970 في أغلب المعامل، وهناك أجهزة معطلة تماما "للمنظر فقط"، ولذلك طلبت نقلي من المعمل المركزي للمبيدات إلي المعمل المركزي للرقابة علي متبقيات المبيدات في الأغذية، حتي لا أتعامل مع المبيدات بشكل مباشر، وأنفد بجلدي من المخاطر. يصمت أشرف قليلاً متذكراً صديقه أبوالوفا محمد الذي كان يعمل بقسم مستحضرات المبيدات، قائلاً: "مات بالسرطان وهو لسه شباب عمره 47 عاماً". الباحثون المؤقتون داخل المعمل يعانون أيضاً ويصل عددهم إلي 184 باحثاً وباحثة وتتحدث عنهم إحدي الباحثات التي رفضت ذكر اسمها، خوفاً من إدارة المعمل: "أنا كنت كويسة قبل العمل في المعمل والآن أحمل بخاخة بعد إصابتي بأمراض صدرية مختلفة، ولست وحدي الذي احمل هذه البخاخة، فكثير من زملائي وزميلاتي يحملنها ايضاً"، وحاسة الشم تكاد تكون منعدمة. وتواصل: تسببت المبيدات في موت الدكتورة أمل أحمد حسنيين منذ حوالي عام بالفشل الكلوي وقبلها الدكتور محمود سمير عبدالفتاح بسرطان في المعدة، مشيرة إلي أن قسم تحليل المبيدات هو الأخطر من بين 10 أقسام تتعامل مع المبيدات، حيث يتعرضون للمبيد بشكل مباشر أثناء تجريبه وعن وسائل الوقاية تقول: "كبيرنا نلبس بالطو". ومازالت قائمة ضحايا التعامل مع المبيدات تحمل المزيد، حيث توفي الدكتور جلال معوض رئيس لجنة توصيات المبيدات بسرطان الرئة عن عمر يناهز 58 عاماً، وكان يجري تجارب علي المبيدات قبل استخدامها بالشرقية، وهناك أيضاً الدكتور نبيل زكي سليمان الذي تولي لجنة المبيدات منذ عام 1987 إلي عام 1990 وأصيب بسرطان الجلد، وذهب إلي ألمانيا للعلاج، وحسب الدكتور أحمد فراج مدير المعمل المركزي للمبيدات الأسبق فقد تم علاج سليمان علي نفقة إحدي شركات المبيدات، كما توفي الدكتور مصطفي عبدالسميع منذ عامين وكان يتولي أمين لجنة المبيدات منذ عام 1990 حتي عام 1992، كما تولي منصب وكيل وزارة الزراعة لمكافحة الآفات، كما أصيب بالسرطان أيضاً الدكتور محمد المرشدي ومثله الدكتور محمد خيري الشيمي رئيس قسم تحليل المبيدات بالمعمل بالفشل الكلوي بالإضافة إلي الدكتورة أمل حسنيين التي ماتت بنفس المرض. ألتقينا والدكتور جلال الدين نصحي السيد الأستاذ غير المتفرغ حالياً بالمعمل المركزي للمبيدات والأستاذ الأسبق بجامعة ميرلاند بالولايات المتحدةالأمريكية، وهو أحد ضحايا التعامل بالمبيدات حيث اصيب بسرطان الجهاز البولي، فقال: عملت بالمعمل المركزي للمبيدات لمدة 20 عاما، كما عمل بوزارة الزراعة الأمريكية فترة مماثلة، مشيرا الي ان هناك علاقة بين اصابته بالسرطان وبين تعامله مع المبيدات ويكشف انه تم عمل مسح علمي علي الباحثين في مجال المبيدات بناء علي حكم قضائي أصدرته محكمة أمريكية بعد أن تم اكتشاف أن كل من تعامل مع مبيد يعرف ب"جالكرون" أصيب بسرطان المثانة والجهاز الهضمي، وهذا المبيد تم استخدامه في مصر لعشرات السنين، ووصل عدد هؤلاء الباحثين المصابين لأكثر من ألف تعاملوا مع هذه المادة المحرمة دولياً. سألت الدكتور أحمد فراج أول أمين للجنة المبيدات في مصر منذ انشائها عام 1993، عن كيفية علاج ضحايا المبيدات القاتلة، فقال: " ليس هناك اي معلومة لدي مراكز السموم بمكونات المبيدات المستخدمة في مصر، وبالتالي لا تستطيع علاج حالات السمية من المبيد، كما أن أماكن إجراء التجارب علي المبيدات والمخازن غير صالحة لهذا الغرض فهي تسمح بتسربها، ورغم أننا نسترشد بإرشادات منظمة الصحة العالمية وهيئة حماية البيئة الأمريكية إلا أن ذلك يظل كلاماً علي الورق فقط، "لأننا عمرنا ما طبقنا القواعد العلمية التي تنص عليها هذه الجهات" تطبق عند زيارة المسئولين فقط. وكشف تقرير صادر عن الاتحاد الدولي لعلوم النبات بعنوان: "مكافحة الاتجار غير الشرعي والغش في المبيدات" أن بوادر عمليات الاتجار غير الشرعي والتهريب للمبيدات ظهرت في مصر في حقبة التسعينيات وأن المؤشرات الحالية تؤكد خطورة المشكلة إذ بلغ حجم مخزون المبيدات المهربة 220 طن مبيد محظوراً دولياً عبر جمرك السويس وحده و20 طناً في جمرك نويبع و14 طناً في جمرك مطار القاهرة بالإضافة إلي تجميع أكثر من 544 طناً بالمخازن، تمهيداً للتخلص منها، ويمثل مجموع هذه الكميات قرابة 1125 طناً خلال عام 2006