حتي نهاية القرن العشرين كانت هناك طائفتان إسلاميتان تمنعهما معتقداتهما عن العمل بالسياسة أو معارضة الحاكم حتي لو ظلم وهما الطرق الصوفية والسلفيون. وكان السلفيون إذا سئلوا ماذا يفعل الناس لو ظلمهم الحاكم. يردون أن علي الناس أن ينصحوه بالعدل. فإن لم يفعل فلا أكثر من أن يدعون الله أن ينتقم منه. أما معارضته أو الثورة عليه خطيئة تكاد ترقي إلي مرتبة الكفر. لأن فيها اغتصابا لحق الله في أن يكون وحده المنتقم. وظل حال السلفيين كذلك حتي 2005 عندما أجريت الانتخابات البرلمانية في مصر وفاز الإخوان المسلمون بثمانية وثمانين مقعداً. أي خمس أعضاء المجلس رغم ما شاب تلك الانتخابات من تزوير فاضح. عند ذلك أصيب الرئيس المخلوع وعصابة حكمه بالفزع، لأن الإخوان بهذه الطريقة قد يصلون إلي الحكم عن طريق صندوق الانتخاب. فلجأ الرئيس المخلوع إلي أصدقائه الوهابيين طالبا النجدة لما بين الإخوان السنيين والوهابيين من عداء مذهبي عنيف. وسرعان ما تحرك الوهابيون وأغدقوا علي القوي السلفية مليارات الريالات حتي تدخل حقل السياسة في مصر لمناوأة الإخوان. وقد قدرت دوائر المخابرات الغربية ما دفعه الوهابيون للسلفيين حتي قيام الثورة المجيدة في سنة 2011 بسبعة عشر مليار ريال. ونزل السلفيون الساحة السياسية وحصلوا في أول انتخابات علي ربع عدد مقاعد مجلس الشعب. وأصبحوا القوة السياسية الثانية بعد الإخوان المسلمين. وننشر فيما يلي ما نشرته مجلة «فورين بوليسي» لكاتبها كرستيان كاريل في 12 سبتمبر تحت عنوان «لحظة السلفيين». يقول كاريل: كما توضح عملية اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي فإن الحركة السلفية شديدة المحافظة تدفع بنفسها إلي مقدمة المسرح السياسي في الشرق الأوسط. وعلي الغرب أن يحتاط في رد فعله. فبعد ساعات قليلة من اقتحام جمهور إسلامي شديد التطرف للسفارة الأمريكية بالقاهرة. تم اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا خلال مظاهرة احتجاج في بنغازي. وسبب الاحتجاجية هو فيلم أخرجته مجموعة أمريكية معادية للإسلام يتطاول علي النبي محمد صلي الله عليه وسلم. وفي مصر أنزل المتظاهرون العلم الأمريكي ورفعوا مكانه علما أسود يستعمله تنظيم القاعدة أحيانا. وكلا الاحتجاجين مستفزا تماما. ولكن ربما لم تكن أمريكا فوجئت تماما بهما. فالمظاهرات في كلتا الحالتين تأتي من الحركة السلفية وكان السلفيون في صدارة الأخبار كثيرا مؤخرا، ففي خلال الشهور الأخيرة في ليبيا كانوا يتحدون الحكومة التي تم انتخابها بأن يدمروا الصروح الصوفية القديمة التي يعتبرونها نوعا من الشرك. وفي تونس أخذ الصوفيون يهاجمون محلات بيع الخمور. وقاموا بحملة دعائية ضخمة ضد اشتراك نساء تونسيات في الدورة الأوليمبية. وفي سوريا وسط الحرب الأهلية هناك تقارير عدة بأن الممولين الأغنياء من عرب الخليج أغدقوا أموالا طائلة علي مجموعات المعارضة السورية التي تفسر الإسلام بنفس التشدد الوهابي في السعودية وغيرها. وقد اكتسبت الجماعات السلفية مؤخرا مواطئ أقدام في بعض أماكن العالم الإسلامي من مالي إلي لبنان ومن كشمير إلي شمال القوقاز الروسية. ويقول بعض الصحفيين مثل روبين رايت إن هناك هلالا سلفيا يمتد من الخليج الفارسي إلي شمال أفريقيا. وتقول رايت إن ذلك نذير شؤم للحريات التي قامت بعد ثورات سنة 2011. وتضيف أن قيام المجموعات السلفية وسط هذه الثورات هي أكثر نتاجها إثارة للفزع من الثورات العربية. وأن هذه الجماعات تتحرك وسط الفراغ الذي كانت تشغله الجماعات الإرهابية الجهادية التي فقدت بريقها مؤخراً. وأن هذه الجماعات السلفية تكن عداء شديدا لحقوق الأقليات وحقوق المرأة. ويقول بعض الصحفيين المصريين مثل مصطفي سلامة أن ما تقوله رايت تشوبه الهستيريا. لأن الحقيقة ان الحركة السلفية منقسمة. وتوجد وسطها عدة اتجاهات وإيديولوجيات. كما أن كون الإنسان سلفيا لا يعني بالضرورة التزامه باتجاه سياسي معين وان الشيء الوحيد الذي يوجد بين السلفيين هو الرغبة في العودة لمعتقدات وممارسات صدر الإسلام التي وضعها النبي محمد صلي الله عليه وسلم. وهي رغبة يشاركهم فيها الكثير من المسلمين. فكلمة «السلف» تعني في العربية الآباء والأجداد. ولا يعني ذلك بالضرورة أنهم يعادون الحرية والديمقراطية. ويضيف مصطفي سلامة أنه خلال الثورة في مصر قام بعض السلفيين في سيناء بحماية الكنائس من السرقة والنهب. مخاطرين بحياتهم. ولم يذكر الإعلام الغربي هذه الحقائق. وإذا كان اغتيال سفير أمريكي بعد نحو عقدين دون حادث مماثل مؤشرا علي شىء فهو أن الوقت قد حان ليلتفت العالم لهذا الخطر. وهناك عدة نقاط يجب ذكرها: 1- مهما كان تعريفنا لهؤلاء الناس حديثي الظهور علي المسرح السياسي، فهم يتمتعون بسرعة نمو غير عادية ومع صعوبة حصر عددهم الكلي، فهم أسرع حركة نموا في الإسلام السياسي المعاصر. ومع صعوبة مصر عددهم الكلي فهم أسرع حركة نموا في الإسلام السياسي المعاصر. وبعكس الإخوان المسلمين فلم يكن للسلفيين وجود يذكر خلال حكم مبارك. وقد اقتحموا المسرح السياسي وحصلوا علي ربع الأصوات في أول انتخابات ديمقراطية العام الماضي. وقد تزداد حصتهم من أصوات الناخبين مستقبلا خاصة وأن حكومة الإخوان المسلمين الحالية لديها مشاكل الوفاء بما وعدت به الناخبين خلال السنة الماضية وصعود السلفيين السريع في تونس بالذات مذهل إذا راعينا أن التونسيين معتدلون جدا في تدينهم. 2- إذا كان تاريخ الثورات يظهر لنا شيئا فهو أن التحول الثوري الذي نراه في الربيع العربي لا يصب بالضرورة في صالح قوي الاعتدال. فيوم مغادرة شاه إيران لعرشه بعد الثورة 1979. لم يكن مؤكداً ان قوي التطرف التي قادها الخوميني هي التي ستحكم إيران. فالاشتراكيون العلمانيون والشيوعيون والليبراليون والإسلاميون المعتدلون وحتي رجال الدين الشيعة المنافسون للخوميني كانوا جميعا يسعون للسلطة. ولكن الخوميني انتصر في النهاية لانه قدم للناس زعامة قوية لا يشوبها الفساد تحت شعار بسيط هو «حكومة إسلامية». ويذكرنا هذا بما فعله لينين خلال الثورة الشيوعية بشعاره الشهير «الخبز- السلام - الأرض». وهو ما أعجب الروس الذين كانوا ناقمين علي الفوضي والحرب وعدم العدالة الاجتماعية وتعريف السلفيين برغبتهم في العودة إلي «نقاء» القرن السابع الميلادي عند ظهور الإسلام قد يكون له نفس الأثر علي كثير من المسلمين الذين أرهقهم الفساد والقهر. وتقدم سوريا لنا المثال الواضح. إذا كنت تثور ضد بشار في وجه طائراته وليس معك سلاح يقاومه، فربما تفضل رفع شعار سهل هو المطالبة بالمشاركة في السلطة لكل الطوائف من خلال ديمقراطية ليبرالية. ولكنه شعار لا يجتذب الجماهير. خاصة السنيين الذين رأوا أهلهم يقتلون علي يد قوات بشار. وليس معني ذلك أن المعارضة السورية يسيطر عليها السلفيون. ولكن من المؤكد القول أنه كلما طالت الحرب الأهلية الدائرة في سوريا ارتفعت فرص المتطرفين. 3- إن السلفيين السنيين عامل رئيسي في الاستقطاب المتزايد في العالم الإسلامي بين السنة والشيعة. ويقول المستشرق الفرنسي أوليفرروي المتخصص في الإسلام إن العداء بين السنة والشيعة أصبح أكثر أهمية من المواجهة بين الإسلام والغرب. وكون الكثير من السلفيين معتمدين في تمويلهم علي الجهات المحافظة في السعودية لا يساعدنا كثيرا فالدعاية الإيرانية تحاول تصوير الغرب علي أنه هو الذي يمول السلفيين المتطرفين من أجل زعزعة استقرار إيران وحلفائها. وأخشي اننا سنسمع الكثير جدا من هذه الدعاية مستقبلا. وباختصار فلا يجب أن نتصور ان السلفيين سيختفون قريبا. ولذلك فعلي العالم ان يفكر كيف سيتعامل معهم خاصة اذا كانوا سيستمرون في مهاجمة السفارات الغربية أعتقد أن الرد علي ذلك من شقين: فأولا لا يجب التعيميم. فلا يجب معاملة كل السلفيين علي أنهم ميئوس منهم. فالسلفيون الذين يقبلون الالتزام بقواعد الديمقراطية ويعترفون بحقوق الأقليات الدينية والعرقية يجب تشجيعهم علي المساهمة في اللعبة السياسية. وبمرور الوقت سيميز الناخبون في الديمقراطيات الناشئة في المنطقة بين الخطرين منهم وبين من يستطيعون التعايش معهم لبناء مجتمع أفضل. وثانيا لا يجب السماح للمتطرفين بإملاء شروطهم علي المجتمع، ولذلك فإن نتيجة الصراعات السياسية الدائرة حاليا في كل من تونس وليبيا مهمة جدا للمنطقة ككل. ففي كلا البلدين كان للناخبين فرصة الخيار بين المرشحين في انتخابات حرة. وقد كان اختيارهم واضحا. فقد صوت الليبيون بأغلبية ساحقة لصالح التيار المدني، بينما صوت التونسيون لصالح خليط من الإسلاميين المعتدلين والليبراليين. ولكن السلفيين في كلتا الحالتين غير راضين عن نتائج هذه الانتخابات ويحاولون إثارة القلاقل من أجل حرب ثقافية. والشيء المشجع أننا بدأنا نري الليبيين والتونسيين رافضين الاستسلام للمتطرفين أو فقهائهم في أكثر من جامعات العرب احتراما وهي الأزهر في مصر، فلا يجب أن يخدعنا مثيرو الفتن، فالقصة في الشرق الأوسط لم تتم فصولها بعد. وإلي هنا ينتهي ما كتبه كاريل ولكن المعركة مع التخلف لم تنته بعد فمن غير المعقول ان تكون مصر أكثر تراجعا جدا في مطلع القرن الحادي والعشرين عنها في مطلع القرن العشرين الذي شهد نفس المعركة ضد التخلف الثقافي والديني والحضاري التي قادها العشرات من أعلام التنوير مثل محمد عبده وقاسم أمين والعشرات من عمالقة الفكر والتي انتهت باندلاع ثورة 1919 الخالدة بقيادة الزعيم الخالد سعد زغلول والتي بدأت بها الحقبة الليبرالية المستنيرة التي أنتجت مئات القمم في مجالات السياسة والأدب والشعر والفن وكل مجالات الحياة. مستحيل تماما ان تستسلم مصر لعقلية العودة إلي عصور الظلام والتخلف فتقبل هدم الآثار الفرعونية باعتبارها رموزاً وثنية ومنها الأهرامات الكبري. أو تقبل ما ينادي به بعض الخارجين من العصور الوسطي بتزويج الفتيات أطفالا في سن التاسعة. أو حبس المرأة نصف المجتمع في بيتها وعدم تعليمها إلا ما هو ضروري أو تسمية شركائنا في الوطن من الأقباط والديانات الأخري كفارا لا يحق لهم تولي المناصب العليا مهما كانت كفاءتهم. لا لن تستسلم مصر لأقلية فكرية معزولة عن الزمن وعن التطور مهما علا صوتها واشتد ضجيجها. ومهما كانت كمية المليارات التي يغدقها عليها الوهابيون وغيرهم ممن يرتعدون من قيام ديمقراطية حقيقية مدنية في مصر. لن يرهبنا هؤلاء وهؤلاء ولن نخشي سيفا مسلطا علينا من قوي التخلف أو حتي سيفين متقاطعين والأيام بيننا. --- نائب رئيس حزب الوفد