أتابع بشغف شديد حكايات الدكتور مصطفى الفقى عن سنوات الفرص الضائعة، ربما لأنه من الحكائين المهرة الذين يمتلكون قدرة شدك حتى النهاية، وربما لأنه يدخل بنا إلى كواليس صناعة القرار التى نجهلها تماما، وربما لأنه يضع أيدينا على مفاتيح لفهم عقلية وشخصية بعض المسئولين، وربما لأنه يشعرنى بأن السنوات التى ضاعت من عمرنا كانت أكثر من الفرص التي أتيحت لأجيالنا، ربما الكثير لكن المؤكد أننى في كل مرة أستمع للكاتب والمفكر مصطفى الفقى أشعر بغيرة شديدة من قدرته على صياغة جمله، وعلى موهبته فى إلقاء هذه الجمل، د.الفقى اختزن خلال السنوات الضائعة قاموسا يطوعه كيفما شاء فى نقل أفكاره، لم ألتق الدكتور الفقى من قبل، وسبق أن انتقدت بعض آرائه بشدة فى هذا العمود، لكن هذا لم يغير اعتقادي بأنه من العقليات المهمة في هذا البلد. بعد انتهاء بعض الحلقات اتصلت به، فى المرات الأولى لكى أشيد بحكاياته وطالبته بأن نقرأها قريبا فى كتاب، وفى مرات أخرى كنت أستوضح بعض الوقائع، على سبيل المثال حكاية للدكتور سعد الدين إبراهيم سمعتها منه خلال لقاء بأحد الفنادق فى رمضان الماضى، عن قاعدة أمريكية في مطار «رأس بناس»، وقد سبق وقرأت عنها في بعض المقالات بالصحف الأجنبية، لكنني لم أصدقها لاعتبارات كثيرة، منها أن الرئيس مبارك كان ينتقد بعض الدول العربية لوجود قواعد على أراضيها، خاصة دولة قطر فى الفترة التي شهدت خلافات بين البلدين، وكان مبرري في عدم الأخذ بالرواية أن العديد من الأنظمة العربية قد شنت أجهزتها ووسائل إعلامها العديد من الحملات على النظام المصري لم يذكر ضمنها قاعدة رأس بناس. قبل أن تنتقل رأس بناس من الفندق إلى الفضائيات والصحف، ذكر الدكتور الفقى في إحدى الحلقات رفض مبارك القاطع وجود أية قواعد أجنبية على الأراضي المصرية، بعد انتهاء الحلقة اتصلت به وسألته «رأس بناس»، فنفى بشدة صحة الرواية. بالأمس كان د. الفقى يحكى عن جهاز المخابرات وأشار إلى العديد من الشخصيات التى تولت رئاسته، وفى رأيه أن أفضل شخصيتين ترأستاه صلاح نصر وعمر سليمان، وأكد د. الفقى واقعة محاولة اغتيال عمر سليمان، وذكر انه كان مثل الغصة فى حلق جمال مبارك ومن حوله ممن كانوا يسعون إلى التوريث، حكايات د. الفقى مست عيوب الأجهزة الأمنية وقيامها بمضايقة بعض المعارضين وأولادهم مجاملة للرئيس، وضرب العديد من الأمثلة، منها حفيدة الشيخ حسن البنا، ومنها ابنة الكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش، عندما رفضت الأجهزة تعيين ابنته معيدة فى الجامعة لأن والدها كان يساريا، وهذه الواقعة كانت أحد مبررات رجاء النقاش رحمة الله عليه فى عدم وقوفه فى صف الكارهين لحسنى مبارك، وقد حكاها لى وتناقشنا فيها أكثر من مرة، وكنت أقول له بالفعل هو موقف يحسب للرئيس مبارك لكنها ليست مبررا لكى نصطف خلفه، رحمة الله على أستاذنا النقاش كان مثلى يقع أسيرا لمن يقدم له المساعدة، خاصة التى تمس أولاده وأهل بيته. مع أن العنوان الذي اختاره المفكر والكاتب مصطفى الفقى لبرنامجه «سنوات الفرص الضائعة» ، يشعرك بمرارة ما ضاع من عمرك فى معارك ومواقف اعتقدت ساعتها انه مهمة وملحة وبعد ضياع العمر تشعر انها كانت وهمية، وان المواقف ذاتها لم تكن تحتمل أفعالاً عنترية، إلا أن الفقى لا يدخل بنا إلى هذه النغمة الحزينة، ولا يحبسنا فى بكائية على الأطلال، بل ينتقل بنا بطرافة وسهولة وانتقائية من واقعة إلى أخرى حتى ينتهي من رسم الملامح التى يسعى إلى حفرها في نفوس مستمعيه للشخصية التى يتناولها. كل ما تستطيع أن تأخذه أو توجهه من انتقاد لسنوات د.فقى الضائعة أن بعض أو أغلب حكايات الفقى غير مكتملة، كما انه يمس بخفة وسرعة على جروحها، سنوات الفرص الضائعة بداية لسيرة كاتب وسياسي اختار أن يروى حكايتها من مقعد المشاهدين. [email protected]