مهنة التاريخ والحكايات، تُبرز مهارة وموهبة صناعها، لا يبوح أصحابها بأسرارها، فكانوا بمثابة حراس لها من الزمن حتى لا تندثر كغيرها، عاشقين لهذا الفن الموروث عن أجدادهم، يطلقون على مهنتهم اسم «صناعة الأنبياء»، يبدعون فى صمت، تطلب الصبر والتدقيق والحرفية، تواجدها أصبح طقسًا رمضانيًا أساسيًا، و حيها مازال محتفظًا بطابعه التراثى العتيق، الممزوج بالحوانيت المتراصة المظللة بسقف خشبى، تطل من بين فتحاته الشمس ويتجدد هوائه، مكتسيًا بالحلة الرمضانية، مغطى بالزخارف المصنعة من أقمشة الخيام، الذى تمتزج فيه الألوان والغرزات الدقيقة لتصنع لوحات قماشية فريدة، جمالياتها تمتزج مع عبق الأرز باللبن والفستق، والقرفة والشاى بالنعناع والكنافة والقطايف على الطريقة المصرية القديمة، فى أجواء يفوح منها زمن محفوظ وملامح من شارع بين القصرين، يجلس الخيامون على عتبات متاجرهم المتواضعة منهمكين فى الرسم وحياكة الغرز الدقيقة بألوان زاهية، يغازلون بألوانهم المتداخلة عيون متذوقى الجمال، ليعطوا للفن القديم المعرّض للاندثار قبلة الحياة، فوجودهم أضحى مزارًا لعشاق الفنون والمشغولات اليدوية. «صناعة الأنبياء» سُميت نسبة إلى نبى الله إدريس، الذى كان يعمل فى حياكة الخيم، كما ذكرت هذه المهنة فى القرآن فى قوله تعالى فى سورة الرحمن «حورٌ مقصورات فى الخيام»، مارس البشر قديمًا فن صناعتها، لصنع مأوى لهم من القماش، بدلاً من الأكواخ، ثم تطور الأمر لإدخال البهجة على مسكنهم، فبدأ الصناع يحيكونها من أقمشة ملونة مستعينين بالتصاميم والزخارف العربية القديمة. انفردت مصر عبر التاريخ فى فن الخيامية، بها أشهر الأماكن التى ما زالت صامدة فى إبداع هذا الفن، وسط صخب شوارع الغورية، وحوارى القاهرة التاريخية، وعلى بعد خطوات من باب زويلة، يقبع فى منطقة تضم بين جدرانها وأزقتها كنوز الحضارة الإسلامية المصرية، شارع صغير، لا يتعدى طوله المائة متر، يعد تراثًا وطنيًا عتيقًا، مكون من عدة ورش خيامية، متراصة على جانبى شارع الخيامية، يعكف الصنايعية وسط الأقمشة الملونة، تشع أعينهم بوهج لا ينطفئ، وتومض ملامحهم فخراً بمهنة توارثوها عن أجدادهم، ممسكين بإبرة فضية سميكة، يقبضون عليها بخفة أصابع رشيقة، تلف الإبرة وتدور بمهارة، معتمدين على قماش التيل والخيوط الملونة، فيما ينسج ويثبّت بخيوط الزمن الملونة وحدات هندسية زاهية منتظمة ذات طابع إسلامى تطغى عليه الأشكال الهندسية كالمثلث والمسدس والنجمة المثمنة، تتخللها آيات قرآنية أو حكم شعبية، ورسومات فرعونية أو إسلامية، ومناظر طبيعية ووحدات أخرى عضوية منحنية تغوص فى الواقع الشعبى، وتشترك فيها عناصر الطبيعة وشخصيات من الموروث الثقافى العربى، وأدخل بعد ذلك رسوماً وزخارف مستوحاة من المعابد والجوامع والكنائس، فتلك الأقمشة الثقيلة الناعمة منها والخشنة، المزركشة بنقوش أغلبها بين الأحمر والأزرق، كل ورشة منها تقع فى طابقين، أحدهما أرضى، وهو الذى تمارس فيه حركة البيع والشراء حالياً، وكان قديماً مجرد إسطبل للخيول، والطابق الذى يعلوه مغلق حالياً، ولكنه كان قديما مكاناً لمبيت التجار الذين يأتون من المغرب والشام إلى الشارع الشهير لشراء بضاعتهم من الخيامية. فى الآونة الأخيرة لم تتوقف هذه الحرفة التراثية على التطريز باليد، فتم فى السنوات العشر السابقة استخدام أساليب الطباعة الحديثة فيها، وتعددت منتجاتها لتشمل الستائر، والأقمشة المزخرفة التى تستخدم كبطانيات أو لتزيين الشوارع والأفراح فى الأحياء الشعبية. كان قديمًا، لها طقوس خاصة للدخول فيها، واعتماد أى حرفى خيامى، يتم بواسطة عقد اجتماع مع الخيامية وشيخهم لرؤية وفحص أعمال الخيامى الجديد، فإذا كانت على المستوى المطلوب يتم قبوله ويقيم الحرفى مأدبة اعتماد لجميع الخيامية للاحتفال بانضمامه للمهنة، أما حالياً فدخول المهنة يتم بشكل تلقائى بعد تعلمها. بداية الصناعة واختلف المؤرخون على نشأتها، فبعضهم رجح أن الفن منبثق من أصول مغربية وإسبانية، ثم بدأ الفنان المصرى على وجه التحديد تطعيمه بزخم هائل من التاريخ الفرعونى والقبطى، والرؤية الإسلامية التى تحمل روحانية عميقة وعالية من خلال التقاء النقش والخط والتصوير لعصرنة الأصالة، وربط التراث بالتجربة الشكلية لهذا الفن. إلا أن «جاستون ماسبيرو» عالم فرنسى، صاحب كتاب «المومياوات الملكية»، ذكر وجود سرادق من الجلد، اكتُشف مع الأسرة ال21، ويعود تاريخه إلى الفترة بين 1054 و1009 قبل الميلاد، يُعرف بسرادق الأميرة أسمخب ابنة ماسهارتا الكاهن الأكبر لآمون، وهذة السرادق تم اكتشافه عام 1880، فى عهد الخديو توفيق، بالدير البحرى بالأُقصر، ويعد من القطع الفنية النادرة التى عثر عليها فى خبيئة الدير البحرى، ما يؤكد أن «الخيامية» فن مصرى قديم، ازدهر بشكل كبير مع الفتح الإسلامى وبالأخص فى العهدين الفاطمى والمملوكى، حيث انتقل من الزخرفة على الجلود إلى الأقمشة، فكانت لهم زخرفتهم النباتية التى طوَّعها الفنان المصرى وحوّلها إلى زهرة اللوتس، وبدأ يعمل خليطاً بين التصميم الإسلامى والزهرة المصرية المقدسة ليُخرج فنًا مزيجًا بينهم، وارتبطت الخيامية قديماً بكسوة الكعبة المشرفة، كانت تتزين بخيوط الذهب والفضة، وتُصنع فى مصر خلال ستينات القرن الماضى، ويتم إرسالها إلى مكةالمكرمة فى موكب مهيب يُطلق عليه اسم «المحمل». حرفة أصيلة تمكنت من الصمود، ألوانها زاهية، غرزاتها دقيقة، لوحاتها قماشية فريدة، تعانى من التدهور وسوء الدعاية والتسويق، مهددة بالانقراض، قاربت على الاندثار، تعرضت لصراع مرير من أجل البقاء والاحتفاظ بهويتها، كفن يدوى فى مواجهة التطور السريع فى تكنولوجيا صناعة النسيج المطبوعة، صناعها يتمنون جهود مبذولة من الجهات المختصة لتنشيط السياحة، مع تدريس فنها للطلاب فى مدارس التعليم الفنى.