تواصل بوابة الوفد نشر حوارها مع العالم الجليل والشيخ المعمر معوض عوض ابراهيم، وتخوص فى مراحل حياته المختلفة، كما تستخلص العبر والدروس. ونستعرض المواقف التى تعرض لها ومقابلته لشخصيات عملاقة فى مجال الفكر والادب وهو ما زال طالبا, بل واعجاب هذه الشخصيات باسلوبه الرصين ونشر بعض اعماله فى وسائل الاعلام التى كانوا يقومون على امرها. **حدثنا عن النشأة الاولى؟ *ان الكلام عن النفس قد يصعب على الانسان لأن الحديث عن النفس ربما زاد الانسان فيه أو نقص بقصد أو بغير قصد, ولكنى ساتحدث عن نشأتى سائلا المولى عز وجل أن يغفر لى ما لا يعلمه الناس, وأن لا يفتننى بما يمدحنى به الناس, وأن يجعلنى خيرا مما يظن الناس انه ولى ذلك والقادر عليه.. ولدت يوم 20/أغسطس/1912م الموافق 1330ه، بقريةِ كفر التُرعة الجديد بمركز شربين بمحافظة الدقهلية ونشأت نشأةً صالحة بين أبوين كريمين، في بيتٍ مُتواضعٍ لا هُو بالغني ولا هو بالفقير، وكان لى أخوان تُوفيا صغيرين لم أرهما، ثُم رزقَ الله والدى بنتا اسمها: حبيبة، وُلدت فاقدة البصر، لكنها توفيت وهي صغيرة، وكانت تحفظ القرآن كاملاً، ولم تخرج من البيت إلاَّ إلىٰ قبرها. ثُمّ سَلَكَت طريقها فبدأ ت بحفظِ القُرآن الكريم، فأتمّمت حفظهُ وأنا دون العاشرة من عُمرى، وفي عام 1926م التحقَت بمعهد دمياط الابتدائي الأزهري، وحصلت علىٰ الشهادة الابتدائية عام 1930م، ثُم ذهبَت إلىٰ طنطا وأكملت الدراسة الإعدادية والثانوية حتى تخرّجت عام 1935م، وبعدها سافرَت إلىٰ القاهرة لأواصل دراستى بالأزهر الشريف فالتحقت في كليةِ أصول الدين وتخرجت منها عام 1939م، ثُم أكملت الدراسات العليا بالدعوة 1942م. **ارتبطت بالشعر والأدب في سن صغيرة جدًا.. ونشرت لك بعد القصائد وأنت مازلت طالبًا.. حدثنا عن هذه المرحلة؟ *من حسن حظي أني ولدت في هذا القرن، قابلت العقاد مرة واحدة في العام الذي جئت فيه إلى القاهرة، وقد نشر لي قصيدة في جريدة «الجهاد» سنة 1933 وأنا طالب بالصف الثالث الثانوي تحت عنوان «استعذاب العذاب»، كنت أقول فيها: يا ماخرًا في عباب الهموم أي عباب وضاربا في فيافي الآلام والأوصاب والسحب تجري بسح من دمعها الوهاب أقصر غناك رويدًا لم تلق بعض عذاب وقد عرفت العقاد مبكرًا، وعزمت بيني وبين الله وأنا طالب في المرحلة الثانوية إن أتيت إلى القاهرة أن أزور ثلاثة: العقاد، والشيخ محمد رفعت، وحسن البنا، فلما شاء الله أن حضرت إلى القاهرة طالبًا بكلية أصول الدين، ذهبت إلى مجلة الدستور التي كان يصدرها الحزب السعدي، وقابلت العقاد وقال لي «أنت معوض الذي كنت أنشر له قصائد الشعر»، وكان أمرًا عجيبًا أنه كان جالسًا على كرسيه لكنه أطول مني وأنا واقف، وسألني عن الكلية التي التحقت بها، فقلت له إنني منتسب لكلية أصول الدين، وعندي فراغ أريد أن أشغله في الصحافة، لعل عائدًا منها يعود علىّ وأشتري منها كتبًا تزيدني فهمًا وعقلًا وعلمًا ومعرفةً، فقال لي «أنت في كلية أصول الدين وهي كلية تربي العقل، وأطلب منك أن تصرّ على البقاء فيها، ولا يبهرك بريق الصحافة»، واعتبرت هذا الكلام خيرًا لي من كنوز قارون، فازددت حرصًا على طلب العلم و في العام التالي الذي نُشرت فيه قصيدة «استعذاب العذاب»، نشرت لي جريدة السياسة الأسبوعية قصيدة بعد صدور كتاب «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل -رحمه الله، وكنت وقتها طالبًا بالصف الرابع الثانوي بمعهد الدراسات الإسلامية بطنطا، وقد أرسلت القصيدة كنوع من الإشادة بالدكتور هيكل عن هذا الكتاب، وظننت أنها لن تنشر لأني مازلت ناشئًا، وهيكل كان قمة من قمم السياسة والأدب، لكن ذات يوم فوجئت بمدرس البلاغة محمد فهمي وكان ضعيف البصر طويل الجسم يناديني قائلًا: «يا واد يا معوض يا داهية، أنا شوفتلك يا واد»، فظننت أنه رأى لي رؤية، ولأننا كنا نعيش حالة من الخوف من الله والبعد عن المعاصي، كنا نؤمن بالرؤية التي نراها لأنفسنا أو نراها لغيرنا، أو يراها آخرون لنا، فقلت له بلهفة «خيرًا يا أستاذ»، فقال «رأيت لك قصيدة في مجلة السياسة الأسبوعية»، ولأنه كان بيني وبين زملائي تنافس في الأدب فقد أخذوا جميعهم يسألونني كيف فعلت ذلك؟. **وماذ عن لقائك بالشيخ محمد رفعت وحسن البنا فى نفس المرحلة العمرية؟ *الشيخ محمد رفعت قابلته بعد أسبوع من المجيء إلى القاهرة، أردت أن أزوره، لأني سمعت عنه الكثير، فلما ذهبت إلى صلاة الجمعة، وجلست وراء الشيخ، وجدت الناس يستقبلون قراءته بالتكبير والتهليل، فقلت لهم: يأيها الناس إن الشيخ رفعت جدير بهذا التهليل والتقدير، لكن الله يقول {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}، فإذا بالشيخ يلتفت ببصره نحوي، ويدعو لي دعوة كأني أسمعها الآن قائلا «فتح الله عليك»، فظللت وفيًا لهذا الشيخ، الذي سمعه رجل في كندا لا يعلم اللغة العربية إلا في الإذاعات الموجهة، فدخل القرآن الكريم إلى قلبه، وإذا به يأتي إلى القاهرة، ويقابل مدير الإذاعة ويخبره عن استماعه للشيخ محمد رفعت قيثارة السماء، وظل هذا الكندي في مصر إلى أن تعلّم اللغة العربية وتذوّق القرآن الكريم، ثم اعتنق الإسلام، وأبى أن يعود إلى بلده إلا وقد أصبح داعيًا إلى الله. **والامام حسن البنا؟ * قابلت الشيخ البنا مرة وأنا في معهد طنطا، ثم قابلته بعد ذلك في لقاءات سريعة، وكثرت مقابلاتي له بعد أن عينت واعظًا، وكنت سعيدًا بذلك العالم الجليل والمرشد العام، ولن أنسى ليلة من الليالي أتى فيها البنا إلى الفيوم، وكان لي زميلان، زميل دراسة، الشيخ خلف محمد علي، والشيخ أحمد عبدالرحيم الذي سبقني إلى الفيوم بعام، كنت قد أتيت من أسوان إلى الفيوم 1945، وقد أعدا لي سكنًا، وفي يوم ذهبنا معًا إلى مؤتمر كان المتحدث فيه الشيخ حسن البنا، فحرصنا أن نجلس بعيدًا عن نظره، في أبعد مكان على يمينه، وكنا نظن أنه لن يرانا، فإذا به يتكلم وفتح الله عزّ وجل وأنار بصره وأراه ثلاث عمائم، وقال مشيرًا إلينا «تفضلوا»، كأنه يريد أن يقول للناس اسمعوا كلام هؤلاء، انتفعوا بتوجيههم، فقد كان -رحمه الله- رقيًقا متواضعًا إلى أبعد الحدود.