آخر تحديث.. سعر الجنيه الإسترليني مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء    ضياء رشوان: مصر ليست صانعة حروب لكنها قادرة على أي حرب    كاميرات المراقبة بمطار القاهرة تكذّب ادعاء راكب باستبدال أمواله بعملات محلية (فيديو)    أحمد الفيشاوي يشتبك مع المصورين في العرض الخاص لفيلم بنقدر ظروفك    برومو تاني تاني يحقق 6 ملايين مشاهدة قبل عرض الفيلم    أمين الفتوى: وجود الكلاب في المنازل لا يمنع دخول الملائكة    عار عليك.. متظاهرون يمنعون بلينكن من التحدث ويقاطعون كلمته 4 مرات متتالية    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    أزهري: ليس من حق الآباء إجبار بناتهم على ارتداء الحجاب    امتدت لساعة.. قرارات مثيرة بعد جلسة الخطيب وجمال علام (تفاصيل)    المصري يفوز على النصر القاهري بهدفين لهدف وديا استعدادا لمودرن فيوتشر    خصومات تصل حتى 65% على المكيفات.. عروض خاصة نون السعودية    تكثيف المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة بالفيوم.. «إحصاء وإنجليزي»    البحوث الفلكية: الأحد 16 يونيو أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    قرار جديد ضد سائق لاتهامه بالتحرش بطالب في أكتوبر    تكنولوجيا رجال الأعمال تبحث تنمية الصناعة لتحقيق مستهدف الناتج القومي 2030    الأعلى لشئون الإسلام وقيادات الإعلام يتوافقون على ضوابط تصوير الجنازات    «رفعت» و«الحصري».. تعرف على قراء التلاوات المجودة بإذاعة القرآن الكريم غدا    مدير مكتبة الإسكندرية: لقاؤنا مع الرئيس السيسي اهتم بمجريات قضية فلسطين    محمد عبد الحافظ ناصف نائبا للهيئة العامة لقصور الثقافة    رفقة سليمان عيد.. كريم محمود عبدالعزيز يشارك جمهوره كواليس «البيت بيتي 2»    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    حزب الله يشدد على عدم التفاوض إلا بعد وقف العدوان على غزة    جلسة خاصة بين جوزيه جوميز وعبد الله السعيد استعدادًا لمباراة فيوتشر    أمين الفتوى بدار الإفتاء: سداد الدين مقدم على الأضحية    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد سير العمل والخدمات الطبية بمستشفى الحسينية    هل وصل متحور كورونا الجديد FLiRT لمصر؟ المصل واللقاح تجيب (فيديو)    تأثير استخدام مكيفات الهواء على الصحة.. توازن بين الراحة والمخاطر    وزيرة الهجرة: نحرص على تعريف الراغبين في السفر بقوانين الدولة المغادر إليها    رئيس الوزراء يتابع موقف منظومة رد الأعباء التصديرية    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    عاجل| أسوشيتد برس تعلن تعليق إسرائيل خدمات الوكالة في غزة    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    "سيارة الغلابة".. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيه (صور)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    ب ممارسات حاطة بالكرامة والتقييد.. شهادات توثق تعذيب الاحتلال ل معتقلي غزة (تقرير)    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    في اليوم العالمي للشاي.. طريقة تحضير «بسكويت الماتشا» في المنزل    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مارك فوتا: الإسماعيلي تواصل معي لتولي الأكاديميات وتطوير الشباب    شبانة: مندهش من الأحداث التي صاحبت مراسم تتويج الزمالك    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    استعدادات وترقب لقدوم عيد الأضحى المبارك 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجدى زين الدين يكتب : «يحيا الهلال مع الصليب» منهج حياة لكل المصريين
مع بداية المئوية الثانية لثورة 1919
نشر في الوفد يوم 09 - 03 - 2020


نفى سعد ورفاقه أشعل الثورة للمطالبة بالاستقلال
الوحدة الوطنية ليست أقباطًا ومسلمين فحسب بل وحدة الأمة بجميع فئاتها
الانتماء الوطنى علامة من علامات الحياة السياسية المصرية
بدأنا المئوية الثانية لتأسيس حزب الوفد وثورة 1919، وتظل هذه الثورة الفريدة فى تاريخ البشرية، هى محركة للوعى القومى، ويظل يوم 9 مارس 1919 بمثابة عيد قومى لجميع المصريين، يوم انتفض الزعيم سعد زغلول لقيادة الأمة المصرية من أجل استقلال البلاد.
الآن ثورة 1919 فيها من المناحى الكثير. فسوف أعرض لمواقف أثناء الثورة، تؤكد منهج الحياة الذى يعد نبراسًا يحتذى به على مر السنين.
«يحيا الهلال مع الصليب» كان شعار الوحدة الوطنية فى ثورة 1919، وقد امتزجت كل المشاعر الوطنية بين المسلمين والمسيحيين فى هذه الثورة، وللوحدة الوطنية فى ثورة 1919 منهج حياة سيظل نبراساً لكل الثورات فيما بعد، وهو ما تجلى واضحاً فى ثورة 30 يونيو 2013، ومن خلال دراسات تناولت الوحدة الوطنية فى هذه الثورة الأم، نجد أن هناك مفاهيم كثيرة فجرتها قضية الوحدة الوطنية فى هذه الثورة العظيمة.
كان سعد زغلول على رأس القادة الثلاثة المنفيين إلى مالطة فكانت هذه الواقعة الشرارة التى أشعلت ثورة 1919، لأنه لو لم يعتقل سعد زغلول فى مساء 8 مارس 1919 ما كان هنالك نفى، ولو لم يكن هنالك نفى ما كان هناك ثورة ولظللنا تحت الحماية البريطانية، وربما كنا إلى الآن ننتظر المخلص الذى يخلصنا من الحماية التى فرضتها علينا بريطانيا فى ديسمبر 1914.
فى يوم 9 مارس 1919 نفى سعد زغلول مع زملائه الثلاثة وهم الأبطال: حمد باشا الباسل الذى كان يمثل العروبة فى مصر، وكان أكبرهم سناً وعضواً فى الجمعية التشريعية ومحمد باشا محمود وهو ابن محمود باشا سليمان الذى كان يعتبر وقتذاك قطب أقطاب الصعيد الذى قيل إنه عرض عليه الملك وأبى وإسماعيل باشا صدقى كان يمثل العقلية الجبارة الفذة، وبالرغم من الخلاف الذى وقع بينه وبين سعد زغلول فيما بعد فإن سعد باشا كان دائماً يتغنى بأمجاد إسماعيل صدقى العقلية ويقول إنه رجل فذ.
ولكن لماذا النفى إلى مالطة؟ كانت له دلالة، فالمعلوم أن الخديو عباس عندما خلع فى ديسمبر عام 1914 كان له حزب فى مصر يتمتع بقوة ويتصل بالصحافة والأوساط المثقفة.. وجميع أنصار هذا الخديو نفوا إلى مالطة، وعلى رأسهم أحمد شوقى الشاعر الكبير وكثير من الأشخاص الذين رئى إبعادهم عن البلد فى الوقت الذى كان فيه الخديو عباس فى اسطنبول!
ففكرة أن يرسلوا سعد زغلول وزملاءه الثلاثة إلى مالطة كانت فكرة فيها خبث.. وهى تعنى أنه مادام النفى قد وقع فيا سعد ويا زملاءه: «أنتم لن تعودوا إلى بلدكم»! فالذين نفوا لم يعودوا وهذا ما جعل طلبة المدارس فى اليوم ذاته يخرجون من المدارس ثائرين محتجين متسائلين: سعد زغلول نفي؟ كيف ينفى الرجل الذى تعلق عليه مصر الأمل؟ هذا الرجل ينفى وينفى إلى مالطة بحيث يحكم عليه بالنفى الأبدى أى بإبعاده بصفة مطلقة وشاملة أى أنه لن يعود؟!
أضرب طلبة المدارس العليا والثانوية (وقتها لم تكن هناك جامعات) وهي: المدرسة السلطانية للحقوق، مدرسة قصر العينى للطب، وأيضاً مدرسة التجارة ومدرسة الخديوية وغيرها.
خرج الطلبة يهتفون بحياة «سعد»؟ لأنهم لا يطيقون أن يبعد «سعد» عنهم، الأفكار كلها تعلقت بشخص صار رمزاً للأمة وشحنة الثورة العاطفية تجسدت فى «سعد».
يحيا «سعد».. إلى أين يا «سعد» لأن أحمد عرابى لما نفى لم يرجع إلا بعد 19 سنة! الإنجليز سوف ينفون سعداً كما نفوا أحمد عرابى هنا قامت الشحنة العاطفية التى تعتبر الشرارة التى فجرت ثورة 1919 صباح يوم 9 مارس.
المندوب السامى البريطانى وقتذاك (السير وينجت) ظن أنه يستطيع أن يطفئ الثورة وكما قالوا فيما بعد: «إيه يعنى الثورة؟ مفيش تعبير اسمه الثورة»!
تصدى الإنجليز للطلبة الثائرين حصل صدام بين الطلبة العزل من السلاح وبين القوات العسكرية البريطانية وهى تظن أنها قوات تنتمى إلى أكبر امبراطورية، الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس فى المشارق والمغارب يعنى من كندا إلى استراليا ومصر وإفريقيا والهند!
أطلق الإنجليز النار على الطلبة فهاجت المشاعر، سقط القتلى، قتل الإنجليز نحو 12 طالباً مصرية واعتقلوا نحو 300 طالب واستيقظ الشعور فى القاهرة بعاطفة قوية فكانت هى الشرارة التى ولدت النار يوم 9 مارس والأيام التالية.
ثم انضم الفلاحون والعمال والتجار والموظفون إلى الطلاب الثائرين وصارت ثورة وطنية عارمة قطعت فيها خطوط السكك الحديدية وهوجمت دور الحكومة ومراكزها واحتلها المتظاهرون، وأعلنوا «الجمهورية» فى زفتى والمنيا وأسيوط.
لقد أحست مصر بأن كرامتها تداس وبأن حرماتها تنتهك فعمت الثورة بلاد القطر كافة، وأخذ الثوار يقطعون خطوط السكك الحديدية التى تستخدمها القوات البريطانية وقدمت بلاد كثيرة التضحيات من أبنائها وممتلكاتها ومنها: زفتى، العزيزية، البدرشين، المنيا، أسيوط، وظلت أعمال الثورة قائمة حتى 4 أبريل 1921 حينما عاد سعد زغلول من الخارج وانتهى نفيه وغيابه عن الوطن.
المفهوم الشائع لتعبير «الوحدة الوطنية فى ثورة 1919» كما يقول فهرى عبدالنور هو انها الوحدة بين الأقباط والمسلمين، ولكنى أطمع فى أن أقنعكم بأن مفهوم هذا التعبير أوسع وأشمل من المفهوم الشائع فنحن الشعب المصرى نسيج واحد وسبيكة واحدة وأمة واحدة، فالوحدة الوطنية ليست أقباطاً ومسلمين فحسب، بل الوحدة الوطنية هى وحدة الأمة بجميع أحزابها وطوائفها وفئاتها وأديانها.
وقد عبر سعد زغلول أصدق تعبير عن مفهوم الوحدة الوطنية الشامل عندما قال: «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة» لأنه استخدم لفظ الأمة للتعبير عن الشعب المصرى بجميع فئاته السياسية والاجتماعية بعد أن كان المصريون يقولون نحن رعايا السلطان العثمانى وكانوا يسافرون بجوازات سفر عثمانية، نجح سعد زغلول فى صياغة واستخدام هذه الكلمة «الأمة» واتفق عليها أعضاء الوفد، ومفهوم هذه الصياغة إننا ننتمى إلى أمة واحدة، والأمة هى مصر.
والأمر فى تقديرى وفى مفهوم ثورة 1919 أن للوحدة الوطنية المصرية فى إطارها الواسع الشامل مفاهيم ثلاثة تنبثق من تاريخ الشعب والوطن:
المفهوم الأول: هو مفهوم الانتماء إلى الأمة المصرية، ومعناه أننا جميعًا من أكبر كبير إلى أصغر صغير، ننتمى إلى هذه الأمة، ونضحى بكل شىء دفاعًا عنها.
والواقع أنه منذ بدء تجنيد الأقباط فى الجيش المصرى سنة 1855 فى عهد الوالى محمد سعيد، اكتمل الاندماج بين المصريين فى واجب الدفاع عن الوطن. ووقف القبطى إلى جانب أخيه المسلم، حاملًا السلاح فى وجه العدو المشترك. وتساوى الاثنان فى حماية الوطن والتضحية من أجله.
وظهر الانتماء الوطنى يعلن عن نفسه فى وضوح خلال الثورة العرابية. فعندما تألف الحزب الوطنى الأهلى- أول تحزب سياسى فى مصر
الحديثة- سنة 1879، قبل الثورة العرابية، ذكر فى البند الخامس من برنامجه أنه «حزب سياسى لا دينى، فإنه مؤلف من رجال مختلفى الاعتقاد والمذهب، وجميع النصارى واليهود ومن يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها ينضم لهذا الحزب، فإنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وحقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية».
ودخل مجلس النواب، الذى تألف وفقًا لدستور الثورة العرابية فى سنة 1881، نائبان قبطيان.
ومنذ ذلك الوقت، برز مفهوم «الانتماء الوطنى» و«الجامعة الوطنية» وبقى علامة من علامات الحياة السياسية المصرية.
ولما اندلعت ثورة 1919، اتفق الجميع فى الاتجاه والشعور والعمل: السلطان والأمراء والفلاحون والموظفون والتجار والمثقفون ورجال الدين والفن.
فالسلطان أحمد فؤاد، الذى عين من جانب الإنجليز، كان له شعوره الوطنى. وبالرغم من وقوفنا ضد استبداده، فإننا نؤكد أنه كان وطنيًا منتميًا إلى الأمة المصرية، وفى جميع المراحل التى مرت بها ثورة 1919، كان السلطان فؤاد يستقبل من يقصده من الشعب ويستمع إليه.
وهذا الأمر ينطبق على جميع أمراء مصر بلا استثناء: محمد على توفيق، وهو ابن الخديو توفيق وأخو عباس، كان يستقبل فى بيته سعد زغلول والقائمين بالحركة. والأمير عمر طوسون فى الإسكندرية، نشأت فى قصره الوفدية. والأمير كمال الدين حسين ابن السلطان حسين، الذى عرضت عليه السلطنة فأبى أن يفعل، كان يستقبل سعد باشا. والأمير يوسف كمال، تزعم يوم 13 نوفمبر 1920، الحفل الذى أقيم بفندق شبرد بالقاهرة، فى الذكرى الثانية ليوم 13 نوفمبر 1918، وألقى فيه خطبة فياضة أدهشت الحاضرين. والأمير عباس حليم، كان وفديًا، واشترك فى الحركة الوطنية لغاية سنة 1930، وحينما وقع الخلاف بين الملك فؤاد وعباس حليم على الدستور، انضم عباس حليم إلى الوفد، فسحب منه لقب النبيل. فأطلق عليه الوفد لقب الشريف، وظل شريفًا.
وهذه الواقعة أذكرها من مذكرات فخرى بك عبدالنور، وهى جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر. أحد الأمراء الذين جاهدوا وضحوا وبذلوا الجهد الكبير فى سبيل الحركة الوطنية خاصة فى أثناء ثورة 1919، كان اسمه الأمير عزيز حسن، حفيد الخديو إسماعيل، كثر نشاطه فى الحركة الوطنية، واشترك فى كثير من الأعمال الوطنية واندمج فى الشعب وتضايق الإنجليز منه، فأرسلت إليه السلطة العسكرية الإنجليزية، يوم 3 يوليو سنة 1921، تبليغًا مع أحد الضباط الإنجليز ومندوب من وزارة الداخلية، بأن يسافر إلى الخارج قبل يوم 10 يوليو، وقد قوبل هذا الإجراء بالاستنكار، وأذاع الأمير بيانًا على الأمة يقول فيه.
«أما وقد حالت القوة بينى وبين البقاء فى صفوف المدافعين عن حقوق الوطن العزيز، فإنى أدعو جميع أعضاء اللجنة برئاستى «لجنة الدفاع عن الحريات» لحضور الاجتماع المحدد له يوم 14 الجارى بمنزل سعادة بركات باشا «ابن أخت سعد باشا» لمواصلة عملهم السياسى فى خدمة بلادنا بالطرق المشروعة، وأن يحافظوا على المصلحة العامة المحافظة كلها، فإننا على الحق. وما دمنا كذلك فالله معنا، والنجاح حليفنا».
وقد سافر الأمير يوم 7 يوليو 1921، فى تظاهرة توديع شعبية، تقدمها سعد زغلول، هكذا كان موقف الأمراء، الذين ملأت الوطنية قلوبهم.
نتحدث عن الطرف الآخر وهو الفلاحون. لقد انضموا إلى الحركة الوطنية بالإجماع، ولا أريد الاستفاضة فيما حدث فى القرى من أحداث ومن جرائم ارتكبها الإنجليز يندى لها الجبين. إن عدد الذين قتلوا ونالوا الشهادة يتجاوز 8 آلاف مصرى، قتل لم يحدث فى تاريخ مصر، منذ دخول السلطان سليم الأول مصر سنة 1517، والحرمات انتهكت والكتَّاب كتبوا بإفاضة: نجيب محفوظ كتب. فكرى أباظة كتب «الضاحك الباكى» وغيرهما كثيرون.
ومما يذكر أنه فى يوم الثلاثاء 4 أكتوبر سنة 1921، أقام مصطفى بكير بك- عضو الوفد المصرى فيما بعد- حفلة ريفية فى بلدة سندوه، للنواب البريطانيين الأحرار الذين دعاهم سعد زغلول، فى حركة بارعة لزيارة مصر، لكى يشاهدوا بأنفسهم مدى انضمام الشعب لحركة الوفد، فوقف فلاح ريفى حافى القدمين، وألقى أمامهم كلمة وطنية رائعة، أثرت فى نفوس الحاضرين. وهى ان دلت على شىء، فإنما تدل على تضامن أبناء هذه الأمة جميعًا على اختلاف طبقاتهم فى حب بلدهم. قد يقال إن الأمراء انضموا للثورة رعاية لمصالحهم، فماذا نقول عن الفلاحين الحفاة، الذين اندمجوا فى الثورة مثل الأمراء تمامًا؟
إن تكاتف الأمراء والفلاحين جنبًا إلى جنب فى الثورة، يدل على أن أبناء الأمة جميعًا، باختلاف طبقاتهم وظروفهم الاجتماعية، انضموا للحركة الوطنية. فلاح ريفى حافى القدمين يقف ويقو لنحن نؤيد سعد باشا والاستقلال، مهما نلاقى فى سبيل ذلك من عنت ومضار. رؤساء الوزارات والوزراء تعاونوا مع قادة الثورة، ومنهم حسين رشدى باشا وعبدالخالق ثروت باشا وغيرهما.. وبالفعل أضيرت مؤقتًا جميع طبقات الأمة: الأمراء والوزراء والفلاحين والموظفين الذين انضموا للحركة الوطنية.
الموظفون: قاموا بعمل جرئ، عملوا إضرابًا لمدة 21 يومًا. وصارت الدولة بلا موظفين. وأصبح الإنجليز فى حيرة: كيف يحكمون هذا البلد؟
التجار: لما جاءت لجنة تقصى الحقائق البريطانية «لجنة ملنر» إلى مصر، قاطعها التجار وسائر فئات الشعب، وأحالوها إلى الزعيم سعد فى باريس. وأغلق التجار أبواب محلاتهم، غير عابئين بالخسارة المادية، فى سبيل المكسب السياسى الوطنى.
المثقفون: النهضة الثقافية التى نعيش فيها الآن، هى من نتائج ثورة 1919: طه حسين، عباس العقاد، توفيق الحكيم، عبدالقادر حمزة.. كل الكتاب الذين كانوا على رأس المثقفين تعاطفوا مع الثورة، وشحنت نفوسهم بمبادئهما وأهدافها. وأطال الله فى عمر نجيب محفوظ، الذى يتغنى إلى الآن بأمجاد ثورة 1919.
رجال الدين: جميع رجال الدين مسلمين كانوا أم أقباطًا، انضموا للحركة الوطنية: الشيخ البكرى والشيخ أبوالوفا بنجع حمادى وأسرة الشيخ على يوسف، انضموا للحركة الوطنية.
الأزهر: كان قلعة من قلاع الحركة الوطنية، وظلت هذه القلعة قائمة وصامدة مثلما حدث فى شهر أكتوبر سنة 1789، وامتدت أمجاد الأزهر
إلى ثورة 1919، واصطبغت بصبغتها، والقمص مرقص سرجيوس، القس القبطى يخطب على منبر الأزهر، والشيخ أبوالعيون يخطب فى كاتدرائية الأقباط! ما هذه الروعة!
رجال الفن: سيد درويش يغنى بلادى بلادى.
المثالون: محمود مختار نحت تمثال نهضة مصر، بوحى وتعضيد الوفد وسعد زغلول، والمسارح كلها عبرت عن مكنون ما فى صدر هذه الأمة العريقة.
المفهوم الثانى للوحدة الوطنية، هو المفهوم الدينى، أى الوحدة بين الأقباط والمسلمين. وبداية نقول إن الحق ما شهدت به الأعداء، فقد اعترف اللورد كرومر، المعتمد البريطانى فى مصر، بفشل سياسة «فرق تسد» البريطانية فيها. وكتب أن الأقباط كانوا يواجهون الإنجليز بمشاعر خالية من الصداقة. وأنه لم يجد أى فارق بين سلوك الأقباط والمسلمين فى الأمور العامة. وأكد كرومر أن الفارق الوحيد بين القبطى والمسلم، هو أن الأول يصلى فى كنيسة، والثانى يصلى فى مسجد، أى أن الاختلاف الوحيد بين الأقباط والمسلمين هو اختلاف العقيدة الدينية، الذى لم يؤثر على انتمائهم الوطنى.
وكان سعد زغلول يرى فى اعتماد مصر على شعبها وحده، بشقيه: الأقباط والمسلمين، الطريق الصحيح للعمل الوطنى فى سبيل الحصول على الاستقلال، ولهذا كانت الوحدة الوطنية لديه، أساسًا راسخًا لمحاربة الاحتلال البريطانى.
وتألف الوفد فى 13 نوفمبر 1918 على أساس مصرى جامع لكل فئات وعناصر الأمة، فبادر الأقباط بالانضمام إليه، وسارع فخرى عبدالنور وويصا واصف وتوفيق أندراوس، لمقابلة سعد زغلول، الذى رحب بانضمام ممثلى الأقباط إلى الوفد، وكان أولهم واصف غالى، ثانى أبناء بطرس غالى، رئيس الوزراء الذى اغتيل سنة 1910 وكان موجودًا فى باريس. فذهب إليه سفير بريطانيًا فى باريس، وقال له: كيف تضع يدك فى يد من قتلوا أباك؟ فرد واصف غالى قائلًا: هذا خير لى من أن أضع يدى فى يد من قتلوا وطنى!
ثم انضم إلى الوفد سينوت حنا عضو الجمعية التشريعية، وجورج خياط من كبار أعيان أسيوط، وحلفًا اليمين يوم 2 من ديسمبر 1918. وسأل جورج خياط، سعد زغلول عن مصير ومركز الأقباط بعد انضمامهم للوفد. فأجاب سعد: «اطمئن إن للأقباط ما لنا من الحقوق وعليهم ما علينا من الواجبات على قدم المساواة».
ومنذ ذلك اليوم، انضمت الأغلبية الساحقة من الأقباط إلى الوفد، واندمجوا فى تشكيلاته كافة.
والذى يتأمل فى أسماء أعضاء التشكيل الأول للوفد، وفى أسماء لجانه القيادية المتوالية (طبقاته)، يتأكد من أنه كان يمثل الشعب المصرى، بكل أديانه وتنظيماته وأحزابه وفئاته وطوائفه. وقد انصهروا جميعًا فى بوتقة ثورة سنة 1919، فكانوا مثالاً للوحدة الوطنية بمفهومها الشامل. كما يتأكد من أن الوفد كمؤسسة سياسية بنى على أساس مصرى واحد جامع، تألفت قيادته وقواعده على مبدأ المواطنة دون الدين. ولم يحدث أى موقف من أعضائه يحمل شبهة التفرقة الطائفية. وكانت الخلافات بين الأعضاء لأسباب لا شأن لها بالدين.
وقد نختلف فى تقدير الدور الذى لعبه الوفد كقائد للحركة الوطنية، وما أنجزته ثورة 1919. ولكن ما لا يوجد خلاف عليه أنه هو دور الوفد فى مزج قوى الأمة المصرية فى كيان واحد على قاعدة المواطنة.
فإذا كان هذا هو كل إنجاز الوفد وثورته فى سنة 1919، فكفى به مغنمًا، إذ عصم الأمة المصرية من شر الانقسام، وأقام وحدتها على أساس عقلى رشيد، فأفسد مؤامرات قوى الاحتلال البريطانى، وأرسى أسس الدولة وتنظيمات المجتمع، ومكن للتطور الاجتماعى من أن يجرى على أساس سليم.
وفى تظاهرات ثورة 1919، وأعمالها المجيدة كافة، ظهرت الوحدة بين الأقباط والمسلمين، فورًا وبكل وضوح، هتف الجميع: (مصر والأهالى والأفكار)، بعنوان ذى دلالة يقول: «الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا». وهذا يعنى أننا اجتمعنا فى وطن واحد، وصارت الوطنية هى ديننا الواحد المشترك. وعبر مكرم باشا عبيد عن هذا المفهوم عندما قال: «أنا مسلم وطنًا ومسيحى دينًا». وهكذا، فإن الإحساس الوطنى، الملىء بالطهارة والنقاوة والإخلاص والتفانى، جعل المسلمين يحسون أنهم أقباط، وأحس الأقباط أنهم مسلمون.
غير أنه كان من مفتريات السلطات البريطانية على ثورة 1919، أنها حركة قوامها التعصب ضد الأوربيين، وإثارة النعرة الدينية ضدهم، فكان فى التفاف الأقباط حول سعد وتفانيهم فى تأييده، أبلغ تكذيب لهذه الفرية.
وفى اجتماع لسعد زغلول بالصحفيين الإنجليز والأمريكيين، فى باريس وجه إليهم خطابًا قال فيه: «ادعوا أن الحركة دينية، ولكنهم رأوا رأى العيان أن مسيحيى مصر ومسلميها متحدون اتحادًا متين العرى، وأن المسيحيين كانوا فى مقدمة القائمين بالمظاهرات، وكان منهم من راح بين أوائل الشهداء برصاص الجنود البريطانية. وإنكم لتجدون اليوم بين أعضاء الوفد المصرى الذين يتشرفون باستقبالكم اليوم فى ضيافتهم خمسة من المسيحيين. وقد كان قسوس الأقباط يقومون بالدعوة الوطنية فى جميع جوامع القاهرة وعواصم الأقاليم، وكان شيوخ المسلمين يفعلون ذلك فى الكنائس».
ومن المعروف أن ويصا واصف وواصف بطرس غالى، وهما من أعضاء الوفد المصرى، كانا يشرفان على أعمال الدعاية للمطالب الوطنية فى باريس، لإتقانهما اللغة الفرنسية. وكان واصف غالى فى خطبه يحرص على القول: «لم يعد للمصريين قاطبة إلا إيمان واحد وعقيدة واحدة ودين واحد هو دين الوطنية».
ويسجل مصطفى أمين فى ذكرياته أن أعضاء الوفد من الأقباط ظلوا صامدين إلى جوار سعد زغلول، أكثر من كثير من أعضاء الوفد المسلمين.
«فعندما اختلف سعد مع أغلبية الوفد فى باريس، فى شأن قبول مشروع ملنر الذى كان حماية مقنعة.. كانت الأغلبية التى تمثل «المعتدلين» مؤلفة من ثمانية: سبعة منهم من المسلمين هم: محمد محمود وعلى ماهر وحافظ عفيفى وعبداللطيف المكباتى وعبدالعزيز فهمى ومحمد على علوبة ولطفى السيد، وقبطى واحد هو ويصا. وكان الأقلية التى وقفت إلى جانب رأى سعد «المتطرف» مكونة من عضوين اثنين كلاهما من الأقباط وهما واصف غالى وسنوت حنا!
وعندما نفى الإنجليز سعد زغلول فى سنة 1921 إلى سيشل، كان البيان الذى أصدره الوفد احتجاجًا بتوقيع خمسة أعضاء فقط، فيهم مسلم واحد هو مصطفى النحاس وأربعة من الأقباط هم واصف غالى وسينوت حنا وويصا واصف ومكرم عبيد!
وأعضاء الوفد الذين نفاهم الإنجليز إلى سيشل كانوا ستة، أربعة منهم من المسلمين هم سعد زغلول وفتح اله بركات ومصطفى النحاس وعاطف بركات، واثنان من الأقباط هما سينوت حنا ومكرم عبيد.
وأعضاء الوفد الذين حكم عليهم بالإعدام كانوا سبعة، ثلاثة من المسلمين هم: حمد الباسل ومراد الشريعى وعلوى الجزار، وأربعة من الأقباط هم: مرقص حنا وواصف غالى وجورج خياط وويصا واصف!
وأعضاء الوفد الذين نفاهم الإنجليز إلى الصحراء فى معسكر المحاريق كانوا سبعة، أربعة من المسلمين: المصرى السعدى والسيد حسين القصبى ومحمد نجيب الغرابى والشيخ مصطفى القاياتى، وثلاثة من الأقباط هم: فخرى عبدالنور وسلامة ميخائيل وراغب إسكندر».
ولهذا، كان سعد زغلول محقًا فى إصراره على أن يشترك الأقباط فى قيادة الثورة فقد تحملوا أكثر من نسبتهم العددية فى إخطارها. وهذا يفسر أنه عندما ألف سعد زغلول وزارته سنة 1024، اختار وزيرين من الأقباط، دون أن يلتزم بنسبتهم العددية.
ويروى مصطفى أمين، أنه عند تأليف «وزارة الشعب» سنة 1924، تقدم سعد زغلول إلى الملك فؤاد بقائمة الوزراء. فأحصاهم الملك. وقال لسعد: إن عدد الوزراء عشرة. والتقاليد تقضى بأن يكون منهم تسعة مسلمون وقبطى واحد. وليس ثمانية من المسلمين واثنان من الأقباط: مرقص حنا بك وزير الأشغال، وواصف غالى أفندى وزير الخارجية، فقال سعد: هذه وزارة ثورة لا وزارة تقاليد. عندما نفى الإنجليز زعماء الثورة إلى جزيرة سيشل، كانوا أربعة مسلمين واثنين قبطيين. وعندما حكموا على بعض قادة الثورة بالإعدام، كانوا أربعة أقباط وثلاثة مسلمين، وعندما أطلقوا علينا الرصاص فى المظاهرات، لم يراعوا النسبة بين الأقباط والمسلمين. ولهذا فنحن لا نراعى هذه النسبة فوقع الملك فؤاد المرسوم الملكى بتأليف الوزارة كما طلب سعد.
وظل الوفد بعد ذلك غير ملتزم بالنسبة العددية بين الأقباط والمسلمين. ودأب فى وزارته على تعيين وزيرين اثنين من الأقباط، من مجموع 9 أو 10 وزراء فى كل وزارة. وتقلد بعض الوزراء الأقباط وزارات سيادية مثل الحربية والخارجية والمالية. أما الوزارات غير الوفدية، التى لا تمثل الأمة المصرية بأمانة، فقد غلب على تشكيل كل منها أن يشمل وزيرًا قبطيًا واحدًا، رغم زيادة عدد الوزراء الذى وصل إلى 15 وزيرًا.
والمفهوم الثالث هو المفهوم الاجتماعى للوحدة الوطنية، وهو مفهوم عظيم، فأين المرأة المصرية فى ثورة 1919؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.