بينما كان القائد الفرنسي الأشهر كليبر يلملم جراح الهزيمة ويجمع شتات جنوده إيذاناً بالرحيل عن مصر وبإعلان رسمي عن فشل الحملة الفرنسية عام 1801 كانت صرخات الوليد رفاعة رافع الطهطاوي في بلده طهطا في سوهاج في جوف صعيد مصر معلنة عن وجوده الذي سيغير من وجه مصر الفكري والثقافي وليتعلم رفاعة لغة العدو الفرنسي ويؤسس لأول مدرسة للغات والمعروفة بالألسن. يستعد المركز القومى للترجمة حاليًا للاحتفال بذكرى ميلاد رفاعة الطهطاوى المؤسس الأول لنهضة مصر الحديثة والتي توافق 15 من اكتوبر 1801. ويعد الطهطاوى هو رائد تجربة الالتقاء الحضارى الشامل بين المجتمع الإسلامى والحضارة الأوروبية فى بداية القرن التاسع عشر الميلادى, ويعتبر الشيخ حسن العطار والذى تتلمذ على يديه الطهطاوى فى الأزهر الشريف بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم فى مدينته طهطا هو أول من اتصل بالحضارة الغربية من الداخل عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر فاتصل العطار برجال الحملة وانبهر بما لديهم من علوم وتقدم وبدأ يشجع طلابه فيما بعد ومنهم رفاعة على ضرورة تغيير أوضاع الأمة وكان يرى بالعين البصيرة أن الطهطاوى هو الأقرب بين أقرانه لتحمل هذه المسئولية مع علمه بما سيواجهه هو وتلميذه من الأزهريين من اتهامات بالتغريب والتقليد خاصة أن العطار كان قد أصبح شيخاً للأزهر فى ذلك الوقت , ثم سنحت الفرصة أمامه, عندما طلب منه محمد على باشا شريكه فى الحلم الأوروبى أن يرشح له إماماً للبعثة الطلابية التى سوف ترسلها البلاد إلى فرنسا فى عام 1825 م ليقوم على الأمور الدينية للبعثة , وكانت للطهطاوى مهمة شخصية كُلف بها بجانب مهمته الرسمية فى البعثة وهى تكليف الشيخ العطار له بكتابة كل ما يراه الطهطاوى على الجانب الآخر من الكون، وبالفعل بر التلميذ بأستاذه فيما طلب منه، ولكن انبهار التلميذ بالمأوى الجديد ذهب به أبعد مما طلب الأستاذ بكثير , فلم يكتف بتسجيل كل شىء بل أخذ يسجل ويعلق ويكتب وجهة نظره فى كل ما رأى، فكان أول مؤلفاته والذى نال شهرة واسعة بعدها ( تخليص الإبريز فى تلخيص باريز ) حيث ظل هذا المؤلف ملء السمع والبصر لعقود بعدها. كانت الرحلة التى قام بها رفاعة الطهطاوى تمثل اللقاء الأول بين الفكر الشرقى التقليدى والحضارة الغربية والتى كانت فى أوج عنفوانها وقوتها عقب الثورة الفرنسية الشهيرة وكانت الحسرة تملأ قلب رائدنا وهو يرى الحضارة والتمدن فى هذه البلاد ويشعر أن وطنه والمسلمين أولى بهذه القوة. عاد رفاعة لمصر سنة 1831 مفعماً بالأمل منكبّاً على العمل فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية. وافتتح سنة 1835م مدرسة الترجمة، التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن وعُيِّن مديراً لها إلى جانب عمله مدرساً بها، وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى ووضع الأساس لحركة النهضة، ففى الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع. ظل جهد رفاعة يتنامى بين ترجمة وتأليف وإشراف على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساماً متخصّصة للترجمة الرياضيات - الطبيعيات - الإنسانيات وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.كما أصدر جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية، هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. بيد أن هذه الشعلة سرعان ما خبت، مع تولِّى الخديو عباس حكم مصر، فقد أغلق مدرسة الألسن وأوقف أعمال الترجمة وقصر توزيع الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان فى 1850وهكذا أفل نجم الثقافةفى مصر والشرق، بيد أن رفاعة لم يغفل عن مشروعه النهضوى الكبير، فواصل تحقيق الحلم من المنفى، فترجم هناك مسرحية تليماك لفنلون، وجاهد للرجوع إلى الوطن وهو الأمرُ الذي تيسَّر بعد موت الخديو عباس وولاية سعيد باشا، وكانت أربعة أعوام من النَّفْى قد مرَّتْ. و لا يخفى على مدى التاريخ ما تعرض له الطهطاوى ورفقاؤه من دعاوى التخوين الدينى والتقليد الأعمى والتغريب لذلك حرص فى كل مؤلفاته على التأكيد على كون دعوته تهدف إلى الاستفادة من الغرب في المجال العلمي، وعندما شعر بما في دعوته هذه من تجديد فاحتاط من أن تواجه بدعوى الابتداع فأكد أن هذه العلوم ذاتها والتى طالما حارب من أجل استقدامها للامة الإسلامية إنما استمد الغرب أصولها من المسلمين ثم عمل على تطويرها، لذا يقول الطهطاوي: «يجب أن نكون لهم في هذا المجال تلامذة تماما كما كانوا هم بالنسبة لأسلافنا». لم يقتصر اهتمام الطهطاوى خلال مشروعه النهضوى على جوانب دون غيرها لذلك نجده يولى المبحث السياسى اهتماماً خاصاً فيقوم بترجمة الدستورالفرنسى ويحرص على تضمينه في كتابه «تخليص الإبريز» وهو اعتقاد منه باحتياج العالم الإسلامي إلى إعادة ضبط علاقة الحاكم بالمحكوم وفق مبدأ الشورى.. ولتأكيد قيمة وأهمية هذا المبدأ حرص الطهطاوي على استحضار ما يقارب لمبدأ الشوري في حضارة الغرب، فأظهر فكرة الدستور الفرنسي وعرض لنمط انتظام علاقة الحاكم بالمحكوم مبرزا أهميتها وقيمتها في تحقيق العدل، ولكنه لم يكن أبدا داعيا إلى تقليد الشكل السياسي الغربي حرفيا. وقد حرص على الإشارة إلى أن في الدستور الفرنسي أمورا ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله، وأضاف أن هذا الدستور ينتظم وفق مقصد العدل. وهو في هذا لم يكن بدعا، بل إن موقفه هو تأكيد على فكرة قديمة كررها الفقهاء مفادها أن العدل يمكن أن يتجسد حتى عند الأمم الكافرة. وقد أكد ابن تيمية على هذا فى قوله المشهور «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وان كانت مؤمنة». من أهم مؤلفات الطهطاوى «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، « أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل». «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوي، وسلك فيه مسلكا جديدا في تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون. أما الكتب التي قام بترجمتها فهي تزيد على خمسة وعشرين كتابًا، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذبه. ومن أعظم ما قدمه تلاميذه النوابغ الذين حملوا مصر في نهضتها الحديثة، وقدموا للأمة أكثر من ألفي كتاب خلال أقل من أربعين عامًا، ما بين مؤلف ومترجم. ثم انزوى رفاعة الطهطاوى فى آخر أيامه عن الساحة الذى ظل يشغلها أكثر من خمسين عاماً حتى وافته المنية سنة 1873م.