«أم كلثوم» تودع الغناء ب«حكم علينا الهوى».. و«حليم» يغنى «حاول تفتكرنى»..«وردة» تشدو ب «بلاش تفارق» وفايزة «غريب يا زمان» يوم 5 أكتوبر.. جولدا مائير تبكى فى كاريكاتير الأهرام.. ومانشيت الأخبار: «الرئيس السادات يتحدث يوم 18 أكتوبر فى افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب» لكل حرب جبهتان.. جبهة المواجهة مع العدو، وجبهة داخلية.. والأخيرة ليس فيها قتال ولا رصاص ولا دماء، ورغم ذلك هى الحاسمة فى المعارك، فكل خبراء العسكرية يؤكدون أن الانتصارات تصنع فى الجبهات الداخلية أولا ثم تتحقق فى ميادين القتال. وطوال 46 عاما رصدت كتابات كثيرة ما حدث على جبهة القتال فى حرب أكتوبر، فيما ظلت صورة الجبهة الداخلية للمجتمع الذى صنع هذا النصر باهته، وبعيدة عن بؤرة الاهتمام. ومن يرصد ملامح الجبهة الداخلية عام 1973، ستتملكه الدهشة مما كانت عليه هذه الجبهة قبل ساعات قليلة من خوض الحرب، وسيتوقف أمام عدة ظواهر رئيسية فى المجتمع آنذاك.. اولى تلك الظواهر، هى أن المجتمع المصرى كان يبدو لمن ينظر إليه من بعيد أنه مجتمع بلا تمايزات كبيرة بين المصريين فلا وجود لملامح تكشف الهوية الدينية، فلا جلاليب بيضاء ولا ذقون ولا أغطية رأس للسيدات إلا فى المناطق الريفية، فيما كانت الفساتين الطويلة هى الزى الشائع لبنات المدن وسيداتها، وكان المينى جيب هو الزى المفضل لدى بعض بنات كثير من جيل الشباب وقتها، أما الرجال فكانت الجلاليب محلية الصنع هى الرداء الوحيد لأبناء القرى، والبدل والقمصان محلية الصنع أيضا هى الرداء الأكثر انتشارا بين سكان المدن، وكانت الموضة المنتشرة بين الشباب هى الشعر الطويل وارتداء القمصان المشجرة والكرافتات العريضة والبنطلون الواسع. لم يعرف مجتمع 1973 كلمة تحرش، فلم يكن أحد يفكر مجرد تفكير فى ملاحقة اي من بنات حواء سواء لفظيا أو حتى بالعيون! مجتمع النصر كان محبا للحياة، ويستمتع بها، بقدر ما ملكت يداه.. كان المصريون شعبا واقفا على باب النهار. ففى مطلع عام النصر، شدت أم كلثوم «ليلة حب»، تأليف أحمد شفيق كامل وتلحين محمد عبدالوهاب: «ياللى عمرك ما خلفت ميعاد فى عمرك الليلة دى غبت ليه؟.. ليه حيرنى أمرك.. أخرك إيه عنى؟.. مستحيل الدنيا عنى تأخرك.. بالأمل مستنى».. كانت أم كلثوم تغنى للحبيب الذى تأخر وتنتظر بالأمل وصوله، واستمتع المصريون بالأغنية، فى ذات الوقت الذى كانوا يحلمون فيه بمعركة الكرامة التى انتظروها طويلا. وفى مارس من ذات العام ودعت أم كلثوم الغناء بآخر أغانيها «حكم علينا الهوى»، (تأليف عبدالوهاب محمد وتلحين بليغ حمدى).. «حكم علينا الهوى نعشق سوا يا عين.. واحنا اللى قبل الهوى شوف كنت فين وانا فين». أما عبدالحليم حافظ فغنى فى حفل جامعة القاهرة يوم 28 أبريل 1973 أكتوبر 3 أغانى «يا مالكا القلب» و«رسالة من تحت الماء» و«حاول تفتكرنى» فيما غنت وردة «بلاش تفارق» وغنت فايزة أحمد «غريب يا زمان». وفى السينما كان عام النصر هو العام الذى شاهد فيه المصريون لأول مرة فيلم البحث عن فضيحة لعادل إمام وميرفت أمين وسمير صبرى، كما شاهدوا أيضا فيلم «مدرسة المشاغبين» لنور الشريف وميرفت أمين، وهو الفيلم الذى تم تحويله لمسرحية بطولة عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلى، وبدأ عرضها قبل أن تضع الحرب أوزارها وتحديدا فى يوم 24 أكتوبر، وعرضت السينما أيضا فى عام الحرب فيلم «حكايتى مع الزمان» بطولة وردة ورشدى أباظة، وفيلم «حمام الملاطيلى» لشمس البارودى ويوسف شعبان وفايز حلاوة ونعمت مختار. وشهد الموسم المسرحى خلال عام الحرب رواجا كبيرا، وتم خلاله عرض غير قليل من المسرحيات، وهى مسرحية «هالو دوللى» بطولة فؤاد المهندس وشويكار ومحمد عوض ومسرحية «افتح يا سمسم» بطولة محمد رضا وليلى طاهر فيما كانت فرقة ثلاثى أضواء المسرح (سمير غانم وجورج سيدهم) تقدم مسرحية «جوليو ورومييت». أما التليفزيون فعرض فى رمضان 1973 مسلسل «عماشة عكاشة» لمحمد رضا، ومسلسل «أبدا لن أموت» لعزت العلايلى، وكانت الفوازير بطولة ثلاثى أضواء المسرح، وإذاعيا كانت إذاعة القرآن الكريم ومعها البرنامج العام يتسابقان فى إذاعة القرآن الكريم على الهواء مباشرة، بتلاوة الشيوخ عبدالباسط عبدالصمد ومحمود الحصرى ومصطفى إسماعيل ومحمد محمود الطبلاوى وأبو العينين شعيشع. ومحمود على البنا وراغب مصطفى غلوش.. فيما كانت الابتهالات الدينية بأصوات الشيوخ النقشبندى وطه الفشنى ونصر الدين طوبار. وكان المسلسل الإذاعى الأول فى رمضان هو مسلسل «سيد مع حرمه» بطولة سناء جميل وسيد الملاح، كما عرضت الإذاعة ايضا مسلسل «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» بطولة عبدالحليم حافظ وعادل إمام، وهو المسلسل الذى توقف عرضه يوم 7 أكتوبر بسب اندلاع الحرب. 5 أكتوبر ويستحق يوم 5 أكتوبر 1973، وهو اليوم الذى سبق الحرب ب 24 ساعة فقط، أن نتوقف عنده، ففى هذا اليوم الذى كان يوافق التاسع من رمضان، لم يكن شىء يوحى بأن مصر ستخوض حربا فى الغد، وهو ما يعد شهادة نجاح كبيرة لخطة الخداع التى وضعها الرئيس السادات نفسه بمعاونة جهاز المخابرات المصرية وخرجت صحيفة الأخبار يوم 5 أكتوبر 1973 لتقول فى مانشتها الرئيسى: «السادات يتحدث يوم 18 أكتوبر فى افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب»، فيما كان مانشيت جريدة الأهرام يقول «توتر حاد على الجبهة السورية يهدد بالانفجار فى أى وقت» وكان المقال الوحيد فى صحف مصر الذى يتحدث عن الحرب هو مقال الكاتب الصحفى «أحمد زين» ولكنه كان يتحدث عن «الجانب العسكرى لغزوة بدر»، أما المادة الصحفية الوحيدة التى كانت تتعلق برئيس وزراء إسرائيل جوالدا مائير، فكانت بريشة الكاتب الكبير صلاح جاهين الذى رسم كاريكاتيرا يسخر فيه من رئيسة وزراء اسرائيل فرسمها وهى تبكى بدموع غزيرة أمام المجتمع الدولى شاكية من من معاملة المستشار النمساوى برونو كرايسكى أثناء زيارتها للنمسا - آنذاك - وتقول «دا حتى مهانش عليه يبوسنى وسلم علىّ بس». صفحات الرياضة يوم 5 أكتوبر عام 1973 كانت حافلة بقائمة من المباريات التى يشهدها يوم 5 أكتوبر فى الاسبوع الخامس من الدورى المصرى وضمت مباريات الأهلى والمنيا، والزمالك والاتحاد، والترسانة والمنصورة، والأوليمبى والسكة، والقناة والسويس، والبلاستيك وبنى سويف، والشرقية ودمياط. ولما أقيمت المباريات مساء 5 أكتوبر تعادل الزمالك مع الاتحاد، رغم أنها المباراة الأولى التى شارك فيها لاعب الزمالك الكبير وقتها - حسن شحاتة - بعد عودته من رحلة احترافية فى الكويت، وفى المقابل فاز الأهلى على المنيا بهدف أحرزه محسن صالح. وكانت المعركة الصحفية الوحيدة فى صحف مصر كلها قبيل ايام من الحرب هى المعركة التى شنها الكاتب الصحفى موسى صبرى ضد الحكومة وقتها، واتهمها بالإهمال والتراخى، بسبب انتشار فيروس غامض معدٍ فى مستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس.. وكان هجوم «صبرى» عنيفا، وتواصل لعدة أيام وهو ما اضطرت معه الحكومة إلى إخلاء المستشفى من كل مرضاه، للبحث عن الفيروس الغامض. والطريف أن ظهر فيما بعد أن تلك الحملة الصحفية كانت جزءا من خطة الخداع، فلقد كان ضروريا توفير مستشفى كامل لعلاج المصابين خلال أيام الحرب، وحتى لا يشك أحد فى الأمر، تم اختلاق حكاية الفيروس الغامض هذا لكى يتم إخلاء المستشفى دون أن يشك أحد فى أن إخلاء المرضى له علاقة بالحرب أو القتال! وسياسيا لم يكن فى مصر وجود لأية أحزاب سياسية، فقط الاتحاد الاشتراكى، هو التنظيم الوحيد الموجود فى الساحة السياسية، وكانت هناك مظاهرات فى الجامعات تطالب بسرعة الثأر من إسرائيل وتحرير سيناءالمحتلة. هكذا كانت الجبهة الداخلية لمصر عشية حرب أكتوبر. وظهر الجوهر الحقيقى للشعب المصرى كله خلال أيام الحرب، فلم تسجل أية حوادث سرقة طوال أيام الحرب، ولم تشهد البلاد أية مشاجرات أو مشاحنات بين الأهالى، ماعدا مشاجرة واحدة تمت بين جارين فى القاهرة، وبعد أن تحرر محضر بالواقعة تصالح الجاران وتسامحا وتعانقا، وتم التنازل عن المحضر فى حينه وساعته. وهكذا كان يعيش مجتمع النصر.. المجتمع الذى حقق نصرا اسطوريا لا يزال يبهر العالم حتى الآن رغم مرور 46 عاما على حدوثه، وهكذا تحققت نبوءة الرئيس السادات الذى قال أثناء معركة أكتوبر: «إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم 6 أكتوبر 73 حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياز خط بارليف المنيع وعبور الضفة الشرقية من القناة بعد أن أفقدت العدو توازنه فى 6 ساعات». وتابع: «لقد آن لهذا الشعب أن يأمن بعد خوف، فلقد أصبح للوطن درع وسيف».