كما توقعنا في الأسبوع الماضي لم يكن ممكناً ان تستمر الأوضاع في مصر بثنائية الصراع بين الرئيس مرسي وجماعة الاخوان المسلمين من ناحية، والمجلس العسكري بقيادة طنطاوي. وإذا كان الرئيس المصري قد تحرك مستغلاً أجواء الغضب من أحداث رفح ليطيح بطنطاوي ورفاقه في القيادة العسكرية وعلى رأسهم رئيس الأركان السابق سامي عنان فيما سمي ب"الانقلاب الناعم" الذي وضع كل السلطات بين يديه. فإن النظر من زاوية أخرى لما حدث يمكن أن يرينا "نصف انقلاب" قادة أصغر أعضاء المجلس العسكري تخلص فيه من كل القيادات الكبيرة ليجلس على قمة المؤسسة العسكرية متخطياً الكثير. وزير الدفاع الجديد الفريق السيسي كان أحد المقربين من المشير طنطاوي. هو الذي ألحقه بمكتبه كمسؤول عن المخابرات الخاصة بالوزارة في سن مبكرة، وهو الذي عينه رئيسا للمخابرات الحربية قبل خمس سنوات، ليلعب بعد ذلك دوراً محورياً في الأحداث أثناء الثورة التي أطاحت بمبارك، ثم ليطيح الآن بالمجلس العسكري ويتولى قيادة الجيش في هذه الظروف الدقيقة. ووزير الدفاع الجديد هو من جيل دخل الخدمة العسكرية بعد حرب أكتوبر. وهو بخلاف جيل طنطاوي وعنان اقتصر تعامله على المدرسة الأميركية والسلاح الاميركي وقد قضى في الولاياتالمتحدة عاماً للدراسة والتدريب. وقد نفى مراراً وتكراراً بعد الثورة أن يكون منتمياً لجماعة الإخوان المسلمين. الواضح هنا أن "الانقلاب الناعم" من الرئيس مرسي ما كان له أن يتم لولا "نصف الانقلاب" من جانب السيسي، واذا كان طنطاوي ورفاقه قد دفعوا ثمن سذاجتهم السياسية وسوء إدارتهم للمرحلة الانتقالية، فإن دور الجيش لم ينته، والصراع على السلطة سوف يتخذ مسارات أخرى، والفصول القادمة قد تكون اخطر مما حدث حتى الآن بكثير. لكن أياً كان الأمر، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة مرة أخرى أن الحديث عن "حكم العسكر" كان بعيداً عن الصحة، فالعسكر لا ينزلون عن مقاعد الحكم بسهولة. ولا أظن أن المجلس العسكري الذي تولى مقاليد الأمور في مصر بعد ثورة يناير كان راغباً في الاستمرار في السلطة، ولا كان مهيأ لذلك . ولكن انضمام الجيش للثورة كان يمثل حجر عثرة أمام أطماع قوى كثيرة في الداخل والخارج، ومن هنا كان ضرب التحالف بين قوى الثورة الشابة والجيش أمراً ضرورياً، وكان الاختبار تحت شعار "سقوط حكم العسكر" هو الطريق لاختطاف الثورة والسعي لإقامة الدولة الدينية على أنقاض الدولة المدنية التي تسعى مصر لإقامتها منذ قرنين. بعد ثورة يوليو 52 تولى مجلس الثورة مقاليد الحكم لفترة انتقالية ارتبطت بارغام جيش الاحتلال البريطاني على الرحيل بعد أكثر من سبعين عاماً من الاستعمار. هكذا مع رحيل آخر جندي بريطاني في عام 56 انتهت المرحلة الانتقالية، وتم انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية، وتم حل مجلس الثورة، وكان عبد الناصر حاسماً في إبعاد الجيش عن العمل السياسي، ظل الجيش مركز قوة، خاصة مع وجود عبد الحكيم عامر في قيادته. ولكن الحكم كان مدنياً ولم تكن المشكلة أن الجيش يسيطر على الحكم، بل ان الحكم المدني لا يسيطر تماماً على الجيش. وكان هذا هو الخلل الذي انتهى بكارثة 67 ، وبعدها تم تصحيح الأمور وخضع الجيش تماماً للقيادة السياسية. وتفرغ الجميع لإعادة بناء جيش المليون مقاتل الذي عبر بعد ذلك وحقق إنجاز 1973. في بداية عهد السادات كانت قيادة الجيش تستطيع التخلص من السادات بكل بساطة، وعند اغتيال السادات كان مركز القوة في يد المشير أبو غزالة قائد الجيش القوي وصاحب الشعبية الهائلة داخل الجيش وخارجه، ومع ذلك قدم التأييد على الفور لنائب الرئيس حسني مبارك. وبعد سنوات تقبل أبو غزالة أيضاً عزله الذي تم بنفس السيناريو مع طنطاوي. ولقد كان الطريق مفتوحاً لقيادة الجيش لوراثة حكم مبارك بعد سقوطه، ولكنها سارت في مسار آخر، وساهمت سذاجتها السياسية وسوء إدارة المرحلة الانتقالية في فقدان الكثير من التأييد الذي اكتسبته حين حمت الثورة. يبدو الأمر الآن وكأن الثنائية في الحكم بين سلطة الرئاسة وسلطة المجلس العسكري قد انتهت،إن مشهد قادة القوات الجوية والبحرية والدفاع الجوي وهم ذاهبون في اليوم التالي للإطاحة بهم لكي يتسلموا أعمالهم الجديدة يقول إننا أمام موظفين أكفاء لا يملكون الرؤية أو الطموح السياسي، ما حدث يترك كل السلطات في يد رئيس الجمهورية بصورة لم تحدث منذ أن نشأ النظام الجمهوري في مصر قبل ستين عاماً، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية كاملة، وأيضاً السلطة التأسيسية من خلال الإعلان الدستوري الجديد الذي أصدره مرسي. تركيز السلطات في يد الرئيس يثير المخاوف من هيمنة "الإخوان المسلمين" على مؤسسات الدولة. وهو ما بدا واضحاً في الفترة الأخيرة في سعي الإخوان لفرض سيطرتهم على وسائل الإعلام ولاختراق الأزهر ومحاولة القضاء على المحكمة الدستورية العليا. هل تستطيع القوى المنحازة للدولة المدنية ان تمنع عملية "أخونة" مؤسسات الدولة؟ وهل تستطيع القوى الليبرالية أن توقف مخطط تغيير هوية الدولة الذي يتم تنفيذه؟ هل يبقي "نصف الانقلاب" على حاله، أم يتم استكماله، ام يجري الانقضاض عليه بعد ان يؤدي مهمته؟ أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة التي تحكمها توازنات القوى في المرحلة القادمة، خاصة بعد ان تعمدت واشنطن الكشف عن أنها لم تكن بعيدة عما حدث، وأن وزيرة الخارجية كلينتون ووزير الدفاع بانيتا بحثا أمر تغيير القيادة العسكرية في زيارتهما الأخيرة للقاهرة (قبل أحداث سيناء) وهو تطور خطير يؤكد أن القصة مازالت في بدايتها، وأن اللعبة أكبر بكثير من صراع المرشد والجنرالات!!