حكى لى الأستاذ محمد الوصيف، رحمه الله، ذات يوم عن صديقه رجب الذى لازمه طيلة سنوات من العمر بلغت الثلاثين عاما، كان الوصيف يعمل بمصلحة الشهر العقارى وما إن ينتهى من عمله فى الثانية ظهراً حتى يقصد بلدة قريبة من مدينة طنطا اسمها «دفرة» متوجهاً إلى صديق عمره رجب، يقضى معه باقى اليوم ثم يتركه منصرفاً فى المساء عائداً إلى بيته ثم مسجد سيدى أحمد البدوى لأداء فريضة الفجر، لم يكن ليفارقه طيلة الثلاثين عاماً، الوصيف كان بالتعبير القرآنى «حصوراً» حيث لا زوجة له ولا ولد، كانت له سياحة خاصة داخل ملك الله وملكوته، مستأجراً شقة صغيرة بمنطقة درب الأبشيهى خصصها لخلوته مع الله، يقرأ فيها أوراده وتسابيحه دون أن يراه أحد، هذه الشقة والتى لقبت فيما بعد باسم «الخدمة» مأوى ومطعماً مصغراً لمن كان يبحث عن الطعام، كلماته لا تزال تردد فى أذنى وهو يقول لى: «تأمل المعنى القرآنى فى قول مالك الملك» ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله. طيلة الثلاثين عاماً يواظب الخل الوصيف على زيارة صديقه رجب، والاثنان الآن يرقدان تحت الثرى فالدوام والملك لله، وأثناء هذه الصداقة والأخوة العميقة، طلب الأستاذ الوصيف من صديق عمره رجب أن يعاونه فى ترميم بعض الشروخ فى شقة الخدمة، فكان رد العم رجب رحمه الله أنه سيرسل له فى الغد عامل محارة يقوم بالترميم وعمل اللازم، وفى اليوم الثانى جاء العامل وبدأ عمله ثم طلب من الأستاذ محمد الوصيف مبلغاً من المال كمقدم دفعة من الشغل، وأعطاه الوصيف ما طلبه وزيادة، ثم جاء العامل فى اليوم الثانى وتحجج بمرض ابنته وطلب مبلغاً من المال، فلبى الوصيف طلبه، ثم انقطع العامل طيلة الأسبوع ولم يأت، كان الوصيف وقتها دخل فى دوامة مرضه الذى استبد به، فانقطع فى إجازة مرضية عن العمل، ثم جاء العامل بعد نهاية الأسبوع وطلب من الرجل المريض أن يعطيه مبلغاً من المال لأجل احتياجات المواد التى سيستخدمها ولم يمتنع العم الوصيف بل استجاب له لحاجة كانت فى نفسه، ثم جاء فى اليوم التالى وتبجح العامل فى طلب مال آخر، لكنه لم يعطه هذه المرة، فى هذا اليوم جاء العم رجب إلى صديق عمره الوصيف، جاء «غضبان أسفا»، انفعل على صديق عمره قال له: لما تأكل حق الرجل ولا تعطيه ماله؟... العامل اشتكى لى معاملتك. تبسم الأستاذ محمد وسأله وهل صدقته يا رجب؟ قال العم رجب رحمه الله: نعم صدقته نهض الأستاذ الوصيف من فراشه وقال لصديق العمر وخليل رحلة الأيام: «يا رجب لقد كانت معرفتنا على ضلال». وطلب منه أن ينصرف إلى بلدته. وقت هذه الحكاية قلت للأستاذ الوصيف، ولكنك كنت قاسيا معه ولم تلتمس العذر للعم رجب، قال لى: «طالما صدق عيباً فى خليله فإن المعرفة لم تكن راقية لتكون بمقام الخلان، وقد وعيت وقتها أن ثلاثين عاماً من عمرى كانت على ضلال، وكان الأولى برجب أن يدفع التهمة حتى لو كنت مخطئاً لا لشىء سوى أن حبى بداخل قلبه قد تملكه، قلت له لكنك ربما كنت قاسياً ورأيت الأمور بمنظارك أنت وليس بمنظار العامل أو العم رجب، فقال لى: «نسيت أن أكمل لك الحكاية ثم استطرد العم محمد الوصيف رحمه الله: «فات على هذه الواقعة سنوات ربما خمسٌ أو يزيد بعدها مرض رجب مرضاً شديداً وأرسل فى طلبى، دخلت بلدته وقد وجدتها مقلوبة رأساً على عقب، حيث أحضرت والدته الكفن وأدوات الغسل وجهزوا كل الأمور لتوديع رجب، فدخلت على رجب، كان منطرحاً على الفراش ووجهه فى لون اصفرار الليمون، وضّأته وهو يرتعد تحت الماء، ثم ضحكت فى وجهه وقلت له لن تموت فز وقم قلبت بلدتكم الصغيرة، فأمسك رجب بيدى وقال لى، جاء العامل وحكى لى أنك كنت كريماً معه وأنه رآك رجلاً درويشاً، فأراد أن يسرقك وكانت حكايتك صحيحة يا محمد سامحنى أنى صدقت العامل، فقال الوصيف: فات على واقعتنا سنوات يا رجب، وتركه وانصرف. سألت الأستاذ محمد الوصيف ولمَ لم تسامحه؟، فأجاب: ومَن قال لك إننى لم أسامحه؟، فقلت أنا له رحمه الله: لكنك انقطعت عنه؟ فأجاب هو: كانت المعرفة على ضلال وقدرها أن تكون محطتها لهذه النقطة ولو استمرت لشابها الرياء والزيف. ظلت تلك الجملة الشديدة الرعب والألم لتهبط على رأسى بين الحين والآخر: لقد كانت معرفتنا على ضلال «وتلك القصة بين الخليلين، والثلاثين عاما، والخطيئة حين صدق الخل على خليله أمراً من رجل وافد عليهما. استلمت رسالة من قرابة أسبوع مضى على البريد الإلكترونى، طلب منى صاحبها ألا أقصص عليكم ما دار فى رسالته من تفاصيل، وقال ما معناه: «تكلم عن الموضوع من بعيد دون الإشارة لتفاصيله، خذ منه موطن الألم واعرضه دون أن تحدث قراءك بألمى أو ألم من ذكرت لك فى رسالتى. «ولعلنى هنا استحضر معكم ومع صديقنا المعذب صاحب الرسالة جملة الأستاذ محمد الوصيف رحمه الله لخليل عمره: «لقد كانت معرفتنا على ضلال»، هذه هو الحال بين الخلان والرفاق وحق الصديق على صديقه فما بالك بين المحبين؟. فى فترة دراستى الجامعية، كنت أختلف مع رفاقى حول موقف ولادة بنت المستكفى من حبيبها المعذب ابن زيدون، قالت لى زميلة وقتها إن الوزير الواشى قد سمم العلاقة بين المحبوبة والحبيب، وكنت أنافح عن ابن زيدون بكل طاقتى لما وجدته من ألم قد استبد بحاله وبهيئته جراء فعل حبه لولادة المتجبرة والقاسية وغير المحبة، كنت دائما أردد أنها لو أحبته صدقا ما صدقت كلام الوزير ابن العيدروس الذى وشى به إليها وأن ماهية الحب بين المحبين لها رابط أقوى لا يراه إلا من كتب عليه الحب وتعذب بفعله، هذا المحب الذى يكون بمقام من يأتيه الوحى، فتصدقه الحبيبة حتى لو قال إن الشمس تشرق من الغرب وتتراءى للعيان وللجميع أنها تشرق وافدة من الشرق، لكن عين المحب لا ترى ولا تصدق فقط إلا كلام المحبوب. عزيزى المعذب صاحب الرسالة.. كانت المعرفة على ضلال، حتى لو دامت العشرة لعقدين من الزمن، أو يزيد، كانت المعرفة على ضلال، حين صدقت المحبوبة كلاماً من واشٍ أو غير واش، لن تستقيم الأمور بين المحبين إن حدث شرخ أصاب مكمن الثقة ومكمن الصدق، «كانت المعرفة على ضلال وعبثاً كان الخبز والملح، عبثاً كانت ليالى المسامرة، كانت المعرفة على ضلال طالما كانت هناك أذن سمعت ولم تنافح بقوة عن الحبيب ولم تستعر بطشاً إذا ذكر الحبيب بسوء حتى لو كان الحبيب معيباً معيوباً، يقول أحد كبار المتصوفة: ولا يكون الحب حباً بين الحبيبين حتى يقول المحب لحبيبه يا أنا، فتتلاشى مفردات الفواصل بين الشخصين حتى يذوبا فى إناء واحد ويصهرا بنار واحدة هى نار الوجد ثم يصقلا بكسوة الوصل، ثم يجعلهما الله خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.