ها نحن على أبواب شهر رمضان تلك النفحة الالهية العلوية، فما أجمل هذا الشهر وما أعظمه، وما أروع أجواء الروحية التي تؤثر على كيان المسلم وفكره ووجدانه وعواطفه، ولا يحسها إلا كل مؤمن صافي الذهن، مطمئن القلب، محب للطاعة والقرب من الله، كاره للمعصية، ويبلغ تأثير نفحات رمضان وأجوائه الروحية مداه عند أرباب الفكر وحملة الأقلام من الأدباء والكتاب والشعراء، فنراه يلهم الكثيرين منهم، ويحفزهم على الإبداع الفكري والأدبي. فنجد أمير الشعراء أحمد شوقي يكتب في رمضان قطعة نثرية لا تقل في براعتها وحسن صياغتها عن عيون شعره، فضلا عما تضمنته من تعبيرات سامية، وأفكار عميقة غير مطروقة، فهو يصور معاني الصوم تصويرا أدبيا، فيقول في كتابه (أسواق الذهب) تحت عنوان (الصوم): «الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع ، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ، ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع وكيف ألمه إذا لذع». ولعمق هذه القطعة الأدبية وصدقها، كان الخطباء – ولا يزالون – يستشهدون بها ، على المنابر عند حديثهم عن الصيام، حتى حفظها العامة. ونجد الإمام محمد عبده يبين بعض النواحي التربوية التي يؤصلها رمضان في نفس الصائم من المراقبة والضمير اليقظ والصبر وضبط النفس، فيقول في أسلوب أدبي رفيع: «ان أمر الصيام موكول الى نفس الصائم، لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى، وهو سر بين العبد وربه، لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه وتعالى، فاذا ترك الإنسان شهواته ولذاته، التي تعرض له في عامة الأوقات، لمجرد الامتثال لأمر ربه، والخضوع لإرشاد دينه، مدة شهر كامل في السنة، ملاحظا عند عروض كل رغبة له من رغائب النفس، أنه لولا إطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له، لما صبر عن تناولها، وهو في أشد الشوق إليها، لا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ، ملكة المراقبة لله تعالى، والحياء منه سبحانه وتعالى أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى، والاستغراق في تعظيمه وتقديسه، أكبر معد للنفوس ومؤهل لها، لضبط النفس، ونزاهتها في الدنيا ، ولسعادتها في الآخرة». ويتحدث الأديب المصري عباس العقاد عن خلق هام من أخلاق الصيام وأثر كبير من آثاره، وهو تربية الإرادة عند المسلم، فنجده يقول في مقال أدبي له تحت عنوان «رمضان شهر الإرادة» نشرته مجلة الهلال عام 1955م: «الإرادة هي فضيلة الفضائل في الصيام ، فآداب الصيام كلها محصورة فيها ، مستفادة من معناها، وليس من أدب رمضان أن يتململ الصائم، وأن يتجهم لمحدثيه ، وأن يبدو منه ما يدل على الضيق من الفريضة، كأنه مكره عليها ، مطيع لها بغير رضاء». ثم يقول: «وليس من أدب رمضان أن يهرب الصائم من إرادته ، بقضاء النهار كله في النوم ، تاركا الطعام لأنه غافل عن مواعيده، غير منتبه اليه. وليس من رمضان أن يفلت زمام الإرادة بعد غروب الشمس، فلا يعرف الصائم له إرادة تصده عن الإفراط في الطعام والشراب الى موعد الإمساك.. فكلمة الإرادة وحدها تلخص آداب رمضان، ولا تحتاج الى إسهاب في تفسيرها، وتعديد أنواعها.. فرمضان شهر الإرادة: أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين والخلق». ثم يبين العقاد أثر الصيام في التربية والسلوك، والذي يهدف الى تأصيل قيمة النظام والتوحد، وتغيير العادات السلبية، فيقول: «ومزية رمضان أنه فريضة اجتماعية، مع فرضه على آحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهبة للنظام ولتغيير العادات شهرا في كل عام ، تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد». ويرسم عميد الأدب العربي طه حسين صورة أدبية للحظات الإفطار في رمضان فيقول: «فإذا دنا الغروب، وخفقت القلوب، وأصغت الآذان لاستماع الأذان، وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب، وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب، الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع، والأيدي تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدني.. قدني، وتصيح البطون قطني.. قطني». -