جاء رئيس مصر الجديد بعد فترة انتقالية ذاق فيها ملايين المصريين «المُر». كانت عبارة «حالنا واقف» علي لسان كثيرين من أصحاب الأعمال الحرة.. الأرزقية.. العاملون في السياحة.. مصانع كثيرة أغلقت أبوابها وتشرد عمالها بعضهم شد الرحال مهزوماً إلي بلده في الجنوب وبعضهم استسلم ل «مد اليد» وتاه في زحام القاهرة. .. أبواب رزق عديدة أغلقت في فترة «التحول الديمقراطي التاريخي في حياة الوطن».. .. ودفع مصريون «غلابة» ثمن الثورة غالياً فهم شهداء وضحايا مازالوا يتساقطون ولا يدري بهم أحد.. بيوتهم «اتخربت».. جاع أطفالهم ومات مرضاهم بعد ان عجزوا عن شراء اللقمة و«الدواء».. هؤلاء ليسوا بعيدين عن المشهد السياسي يحبسون أنفاسهم مع مليونيات الميادين واعتصامات المحتجين.. وليس أمامهم سوي الصبر.. إلي ان يأتي الفرج.. .. شباب كثيرون مازالوا يدقون أبواب الهجرة غير الشرعية ويلقون بأنفسهم في بحار المجهول بعد ان ضاق بهم الوطن.. وآخرون انتحروا وتركوا لذويهم رسائل اعتذار لعجزهم عن إيجاد فرص عمل شريف.. آباء خنقتهم الديون فباتوا في هم بالليل ومذلة بالنهار.. .. وأصبحت إشكاليات الصراع «الأزلي» بين الدولة الدينية والمدنية.. وقضايا الصلاحيات بين الرئيس والعسكر.. وحل البرلمان كله أم ثلثه.. كلها مجرد خلفيات باهتة تنطلق من حناجر «نخبة» جيوبهم انتفخت من ثروات «التنظير مدفوع الأجر علي الهواء عبر شاشات التليفزيون». فيما تلتهم حمي «خراب البيوت» البسطاء من الناس.. وأصبح لزاماً علي رئيس مصر بعد الثورة اتخاذ إجراءات فورية وعاجلة لانقاذ ضحايا المرحلة الانتقالية. حالنا زي «القطران».. مفيش مليم في جيبي احنا تعبنا وما حدث حاسس بينا.. طالما معاهم فلوس وبياكلوا ويشربوا.. يحسوا بينا إزاي؟! .. لم يعلق «المعلم رمضان» علي نتيجة انتخابات الرئاسة ولم يرسم الحظ علي وجهه أية علامة دالة إلا علي الغضب.. كان حاله كحال الشارع الذي يقف علي جانبه ممسكاً بحصانه «المتعب» والتي برزت عظامه وبدا نحيلاً.. قابلته في المنطقة السياحية بالأهرامات.. كان الشارع هادئاً هدوءاً موحشاً في «عز النهار» وغير الموسم.. كما يقول الرجل.. قال «بقي خرابة» وإحنا بيوتنا اتخربت حتي الحصان مش لاقيين نأكله. تقطع كلمات الرجل جولات عيني في الشارع.. عربات حنطور.. منتشرة بشكل عبثي فارغة من أية زبائن.. لم أر سائحاً واحداً في المنطقة التي كنت لا تجد فيها موطئا لقدم في مثل هذا الوقت المحال معظمها مغلق والمفتوح منها جلس أمامه صاحبه واضعاً يده «علي خده».. بعض العمال متناثرون علي مقاه عديدة خالية المقاعد.. يتحدثون عن «الديون وحالهم اللي أصبح يصعب علي أي حد» كما قال ياسر: قبل الثورة كان الحال «يعني ماشي بالعافية حالياً.. مفيش خالص. السياحة مضروبة وأنا أكل عيشي من هنا والله باستلف علشان «علف الحصان» ولدي زوجة وأولاد راحوا البلد لضيق الحال. .. وكما أكد «رمضان» من قبل ان هذه هي الفترة الأسوأ له منذ 35 سنة يعمل في هذه المهنة التي هي رزقه ورزق أولاده قائلاً: «مافيش استقرار وده بيخلي السياح يهربوا وبيخافوا». وتصبح النتيجة كما يقول عماد الذي يعمل أيضا علي حنطور .. نطلع من البيت زي ما تروح زي ما تيجي وأقسم انه كان يبني لنفسه شقة وتركها علي «المحارة» ولم يعد يستطيع تشطيبها وقال أصبحنا مديونين لخلق الله علشان نعيش حتي الاعلاف نشتريها بالدين وقال ان بعض الجمعيات الخيرية تنفق علي الأحصنة مثل «بروك» وغيرها وتصرف لها كيلو في اليوم.. وهذا لا يكفيها.. لانها تتكلف ب 30 جنيه عليق و30 جنيه برسيم هذا دون حساب الحديد والعلاج.. واحصنة كثيرة مرضت وماتت ولم تجد ثمن علاجها. أما مأساة محمد فهي أكبر من ذلك فقد كان عاملاً بأحد المطاعم السياحية الشهيرة وتم الاستغناء عنه مع خمسة عمال آخرين دون أي تعويض ودون سابق إنذار.. محمد كان أبا لمولود حديث كان كل أمله في الحياة لكنه كان بحاجة للوضع داخل حضانة وكالعادة لم يجد في أي مستشفي حكومي.. وإلي ان جمع مصروفات حضانة بمستشفي خاص كان الولد قد مات.. أصيب محمد باكتئاب وطلق زوجته التي اتهمته بالتسبب في موت وليدها: علي باب أحد المحلات العتيقة بالهرم كان عم عبدالرحمن الرجل العجوز جالساً كأنه يتأمل في أحوال الدنيا هو ترزي عربي أو كما قال: أنا فنان لكني راحت عليا كنت بأعمل حاجات للخواجات بيحبوها.. أو أبيعها للمحلات في نزلة السمان.. لكني ما عدش حد بيطلب حاجة وأنا عايش ارزقي يوم بيوم قال أيضاً: القلق في البلد واقف حال الكل ويمكن الرئيس الجديد يقدر ينقذنا من الجوع لو راعي الله وبص للغلابة اللي زينا وأنا عندي أمل كبير. أبوالبنات تاكسي قديم أبيض * أسود.. جلس فيه رجل متوسط العمر وقد أطل بجسده من باب السيارة الذي تركه مفتوحاً.. وما ان سألته عن أخبار الشغل فرد بسرعة «انتوا شايفين إيه.. مافيش شغل كنت انتظر الموسم السياحي من العام للعام حتي العائلات العربية التي كنا نعتمد علي الله وعليها لم تأت هذا العام.. معظمهم يتجه الآن لتركيا وقبرص وخايفين ييجوا مصر. عم صلاح عثمان والد لأربع بنات قال انه علمتهم أحسن تعليم «بطلوع الروح» وكلهن حاصلات علي شهادات جامعية وهو ينفق علي السيارة القديمة المتهالكة من «لحم الحي» لان مافيش دخل وأشار إلي الأهرامات في قمة الشارع الطويل الخالي قائلاً: «كان هنا رزقنا ونفسنا يرجع ثاني علشان نعرف نعيش». أما محمد غنيم تاجر عطور بالمنطقة السياحية فقال نحن نعيش في قهر وخراب وماحدش بيرحمنا وبقينا زي الزرع الممنوع عنه الميه.. السياح كانوا يشترون العطور الشرقية.. البضاعة في المحل لم أبع زجاجة واحدة منذ شهور طويلة وأصبحت مديونا لطوب الأرض لازم الرئيس الجديد يشوف حل بسرعة لعودة السياحة علشان الشباب والبيوت اللي اتخربت. مافيش جواز! ليس العاملون في السياحة فقط هم من تأثروا بتردي الوضع الاقتصادي وطغيان المشهد السياسي عليه.. بل أصحاب المحلات الصغيرة والحرفيون مثل الأسطي محمد إبراهيم النجار.. الذي نظر إلي عدته بالدكان الصغير وكاد يبكي.. يده لم تمس مسمارا منذ شهور.. ماعملتش حتي دولاب أطفال. قال أيضا أنه مهدد بالطرد من صاحب البيت بعدان تراكم عليا الدين «مكسور عليا إيجار 6 شهور.. طب أعمل إيه أسرق.. صاحب البيت مايهموش وعاوز فلوسه سوق الجواز واقف والشباب مش لاقي.. واقسم الأسطي ان أحد الزبائن كان قد أعطاه عربون حجرة النوم وكان هذا قبل الثورة.. ثم عاد وسحبه لانه فُصل من عمله.. ومن وقتها كل ما يأتي إليه من عمل لا يزيد عن.. كرسي مكسور عاوز مسمارين.. واحدة عاوزة طبلية.. وكلام فاضي. راحت عليك حال سمير حافظ الذي وضع كرسي أمام ورشة إعلانات صغيرة يمتلكها لا يقل بؤسا عن سابقه فهو يستأجر هذا المكان منذ أكثر من 10 سنوات لعمل لافتات الإعلانات وكان لديه أكثر من «خطاط» يعاونه.. ورغم صخب المشهد السياسي وتعدد الانتخابات سواء مجلس الشعب أو الشوري أو الرئاسة إلا انه يعيش أزمة عنيفة جراء انعدام الإقبال علي صنعته قال في بؤس شديد: هذه هي مهنتي الي أجيدها منذ 25 عاماً وكانت مواسم الانتخابات بالنسبة لي أفراح.. لدرجة تزوجت من عائدها وانفقت علي ابنائي الأربعة إلي ان بدأ الرزق يشح لدرجة الهدم، حتي في الانتخابات انصرف المرشحون للافتات الكمبيوتر واللوحات المضاءة ولم يعد أحد يكتب علي القماش. فضلا عن موقعي هنا في شارع رمسيس أي قلب الأحداث والمظاهرات والمليونيات في التحرير يضطرني لإغلاق الورشة معظم الوقت.. وأطفال مازالوا بالتعليم الابتدائي وأنا بلغت الخامسة والخمسين من عمري وليس لي أي معاش أو باب رزق آخر.. فهل أجد الأمان في العهد الجديد وهل يحس بي رئيس الجمهورية الذي جاء بعد ثورة لنصرة مظاليم البلد؟! ع الرصيف كثير من المصانع بالمدن الجديدة أغلقت وقامت بالاستغناء عن مئات العمال وكثيرا ما تجد لافتات في المناطق الصناعية عن بيع مصانع أفلس أصحابها أو أغلقوا مصانعهم حتي تتحسن الأحوال وتستقر. علي باب أحد المصانع المغلقة بالمنطقة الصناعية ب 6 أكتوبر جلس الرفاق.. التفوا مستظلين بشجرة تداعبهم أوراقها الجافة المتساقطة ربما تريد ان ترفع عنهم شيئا من أحمال ثقيلة علي قلوبهم. محمد كان يعمل بمصنع «شرابات» - جوارب - هو أصلا من قنا جاء للبحث عن عمل منذ أكثر من عامين وكان يعمل باليومية في المصنع نظر الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره إلي يديه وقال: اعمل بيهم إيه/ مافيش شغل.. صاحب المصنع غلبان كان بيخسر وقفل وبيته اتخرب ومافيش حد «عوضه» قالنا «معلهش يا رجالة.. كنا أكثر من 20 واحد كلنا من الصعيد.. انتظرنا يمكن تلاقي شغل في حتة ثانية. ويكمل زميله من قنا.. قال: «ماينفعش نرجع البلد مافيش شغل هناك.. احنا معانا شهادات وولاد ناس». ولو قمنا علي جبل تهده.. لكن «عطلانين» بنشتغل أي حاجة بعد غلق المصنع حتي «نشيل التراب والطوب علشان ناكل عيش وطعمية ويمكن نبيت في الشارع» «مافيش معانا إيجار أوضة» بعد انتخاب الرئيس.. فيه أمل.. يانشتغل ونعيش بكرامتنا يا يرجعونا بلدنا ويدونا أرض نزرعها. بين صخب المشهد السياسي وبكاء أطفالها تاهت خطوات فتحية.. فهي أرملة مكافحة ربت ابناءها الخمسة بمعاش لا يزيد عن 150 جنيها بعد الزيادة وكانت إلي وقت قريب تنعم بصحة جيدة استثمرتها في خدمة «الموظفات» تنظف لهم الخضراوات أو أحيانا بيوتهن.. وبهذا تزيد من دخلها وتطعم أطفالها كأي امرأة مصرية مكافحة في مثل ظروفها لكن السكر أصابها برعشة مزمنة أصبحت لا تستطيع أن تمسك بيديها شيئاً فاضطر ولداها للعمل في محلات للملابس الجاهزة بمنطقة وسط البلد وأصبح راتب الولدين هم كل الدخل بالإضافة إلي المعاش الهزيل لكن فرحة فتحية لم تدم طويلا فبعد أن قامت الثورة وأصبح ميدان التحرير بمنطقة وسط البلد قلباً نابضاً بالأحداث تأثر أصحاب المحلات.. قالت السيدة والدموع تملأ عينيها: صاحب المحل استغني عن الولدين مرة واحدة وقال: أنا مش قادر أدفع حتي فواتير الكهرباء ومافيش بيع ولا شراء وكل شوية الشارع مقفول والناس بتخاف تنزل .. وبياعين الرصيف أصبحوا هم أصحاب وسط البلد. فتحية بحثت لولديها عن شغل بديل فلم تجد .. الولدان عجزا أيضا عن إيجاد عمل وهما ليسا مؤهلين بشهادات قد تعينهما علي ذلك رفعت فتحية يديها بالدعاء.. يمكن ربنا يعوض صبرنا خير ويلاقوا شغل للعيال. من الواضح ان فرص العمل هي التحدي الأكبر الذي يواجهه رئيس مصر الجديد وبدونها ستغرق المزيد من الأسر المصرية في دوامة التشرد وعدم العثور علي فرصة عمل قد يجده بعض الشباب مبرراً كافياً للانتحار.. كما حدث أكثر من مرة في الآونة الأخيرة وأقربها انتحار «محمد أنور» الشاب الذي كان يعيش مع والده وإخوته في عزبة عثمان بشبرا الخيمة.. والذي انهي حياته علي مشنقة صنعها بثيابه وعلقها في سقف حجرة تدلي منه جسده الهزيل.. تاركاً رسالة اعتذار لوالده وإخوته!!