أخيرا حظيت مصر بأول رئيس مدنى منتخب بإرادة شعبية حرة، منذ قيام ثورة 1952م، فقد ظلت رئاسة مصر يتبادلها حكام عسكريون على مدى ستين عاما، بدءاً من محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد الثورة، ثم جمال عبدالناصر، والسادات، ومبارك، الذى أصر على أن يظل قابعا على كرسى الرئاسة لمدة تساوى ما قضاه الثلاثة الذين سبقوه على ذات الكرسي، ولم يترك الرئاسة إلا بثورة شعبية اقتلعت جذوره وجذور نظامه الفاسد الذى أغرق مصر والمصريين فى بحر لجى من المشكلات والتحديات، نتيجة للاستبداد والظلم والفساد. أخيرا نجحت ثورة المصريين وإرادتهم الحرة فى إفراز رئيس مدنى منتخب من رحم الثورة، وقضت على ما تبقى من أطماع فلول النظام السابق، الذين بيتوا النية للانقضاض على الثورة، واستنساخ نظام مبارك فى صورة أحد تلاميذه وأتباعه النجباء، ولكن خاب ظنهم وظن كل من انخدع بهم، وجاءت النتيجة النهائية لتحق الحق وتبطل الباطل، ولو كره الكارهون. نجح محمد مرسى فى الانتخابات، وأصبح من الآن رئيسا لكل المصريين، يقف على مسافة متساوية من كل التيارات والقوى السياسية، لا فرق عنده بين إخوانى وسلفى وعلماني، ولا بين مسلم ومسيحي، الكل عنده سواء.. بعد أن لزم عليه أن يتخلى عن رئاسته لحزب الحرية والعدالة، وعن انتمائه لجماعة الإخوان. ولقد فرحنا بفوز الدكتور محمد مرسي، ولكن ستظل فرحتنا منقوصة حتى يكملها المجلس العسكرى بتسليم السلطة فى نهاية هذا الشهر، استجابة لكل القوى الشعبية والسياسية التى تطالبه بذلك. أقول هذا وأنا أرى وأتابع ما يفعله المجلس العسكري، منذ خميس ما قبل جولة الإعادة من إجراءات تدل دلالة واضحة على أنه قد عقد العزم للالتفاف على السلطة الشرعية المدنية فى البلاد، فى صورة انقلاب عسكرى نظيف وبلا دماء، يضمن له الاستمرار فى مشاركة الرئيس المنتخب فى إدارة شئون البلاد. ولننظر ماذا حدث: أولا: حل وبطلان مجلس الشعب المنتخب بحكم من المحكمة الدستورية، وفى هذا التوقيت بالذات، وصدور قرار من المشير عقب صدور الحكم بحل المجلس، وكأنه لم يكن. ثانيا: وضع إعلان دستورى مكمل، بعد انتهاء مرحلة التصويت فى انتخابات الإعادة لرئيس الجمهورية، وبدء فرز الأصوات وظهور بوادر بفوز الدكتور محمد مرسي، وهو الإعلان الذى يرد صلاحيات التشريع للمجلس العسكري، ويحصن المؤسسة العسكرية، ويعد خطوة لاقتناص السلطة. ثالثا: وضع العراقيل أمام لجنة تأسيسية الدستور المنتخبة من المجلس قبل بطلانه، وانتواء المجلس تشكيل تأسيسية أخرى بالشكل الذى يراه، حيث تضمن الإعلان التكميلى مادة تختص بتشكيل لجنة الدستور. رابعا: تعمد المجلس من خلال الإعلان الدستورى المكمل، بأن يبدأ رئيس الجمهورية المنتخب فترة رئاسته بصلاحيات منقوصة وغير كاملة، وهو مكبل بأغلال وقيود مواد الإعلان الدستورى المكمل، فهذا يعتبر انقلابا، ويضع الجيش فى منصب الإشراف على النظام السياسى بأكمله، وعلى كتابة الدستور. خامسا: إصرار المجلس العسكرى على مشاركة رئيس الجمهورية فى سلطاته الدستورية، من خلال المشاركة فى التشريع، وهو الحق الذى يمارسه ريس الجمهورية طبقا للدساتير السابقة فى حالة غياب مجلس الشعب أو حله أو عدم انعقاده، وكذا ما منحه المجلس لنفسه من حق الإشراف على الموازنة العامة. سادسا: صدور قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية للشرطة العسكرية، وهى تابعة للمجلس العسكري، وهذا تدخل من الجيش فى عمل وزارة الداخلية المدنية. فكيف يعمل رئيس الجمهورية المنتخب فى هذه الفترة العصيبة التى تمر بها البلاد بعد الثورة، والشعب ينتظر منه الكثير، وهو مكبل بتلك القيود والأغلال والألغام التى وضعها المجلس العسكرى فى طريقه؟.. والشعب المصرى بطبعه، خاصة بعد الثورة، لن يرحم، وسينتظر النتائج العاجلة، دون النظر إلى تلك العراقيل. وإذا كان مبارك عندما تنحى قد أسند للمجلس العسكرى سلطات رئيس الجمهورية لإدارة شئون البلاد، واليوم قد انتخب الشعب رئيسا للجمهورية، فلماذا لا يسلمه المجلس العسكرى السلطة كاملة، لكى يكمل الرئيس الجديد مسيرة بناء ما تبقى من سلطات، وإدارة شئون البلاد، أم أن العسكرى قد طمع فى السلطة، وإن أظهر أعضاؤه زهدهم فيها وتعففهم عنها؟ ولماذا يصر المجلس العسكرى على فرض وصايته على كل سلطات الدولة؟، أليس فى كل ما يحدث نية واضحة لاستمراره فى الحكم، وارتداده عن وعوده بتسليم السلطة فى نهاية شهر يونية؟