فى الواقع أن كمال الشيخ تعلم من مخرجى الأربعينات حرفة السينما، فمن كمال سليم تعلم الواقعية المربوطة بالحس الاجتماعى، ومن أحمد كمال مرسى وكامل التلمسانى حرفية أن تكون أفلامه مزيجًا من المتعة والإنسانية، سينما لها جدوى مرتبطة ببيئتها. ترى هل كان الزمن مع ميعاد مولد ثورة ومبدع فى الوقت نفسه فى قبل أيام من اشتعال ثورة 1919 ولد كمال الشيخ فى 5 فبراير؛ وكم تمنى أن يكون هو الفتى فريدى بارتليميو الذى يلعب إلى جانب مارلين ديتريش فى فيلم «فينوس الشقراء» وهو ما لايزال ابن الثانية عشرة من عمره؛ وفى المرحلة الثانوية كانت السينما طقسه الأسبوعى يوم الجمعة.. ولعشقه للسينما استغل علاقته بحيدر باشا وزير الحربية ليدخله عالمها، وعمل بالسينما فى بداية عهدها عام 1941؛ والرائع أنه فشل أن يكون ممثلاً بل أن المخرج صدمه بكل قوة قائلا: «أنت يا ابنى ملامحك ما تنفعش ممثل روح شوفلك شغلانة تانية» فكسبت السينما المصرية واحداً من أهم مخرجيها. المشوار السينمائى بدأ مع أحمد سالم الذى قدمه لنيازى مصطفى؛ وكانت له بصمته الخاصة كمونتير وأول أفلامه كمونتير، فيلم « إلى الأبد» عام 1941 للمخرج كمال سليم، ثم شارك كبار المخرجين أهم كلاسيكيات السينما المصرية فاطمة لأم كلثوم، غزل البنات، مثل «البؤساء، طقية الإخفاء، الخمسة جنيه، ملاك الرحمة، ابن عنتر، قلبى دليلى، طلاق سعاد هانم، عنبر، ليلة العيد، الأفوكاتو مديحة، المليونير، آخر كدبة، ظهور الإسلام، ياسمين، قطر الندى، عايز اتجوز، بنت الأكابر، المهرج الكبير. وتفرد بعد ذلك عن غيره من أبناء جيله عندما شارك فطين عبدالوهاب إخراج فيلم «الغريب» عن الرواية العالمية «مرتفعات ويذرنج». فى ‘المنزل رقم 13' 1952، أول تجاربه كرائد التشويق فى السينما معتمدا فى إثارته على توظيف ‘المفارقة الدرامية' فالمجرم الحقيقى يظل غير معروف للمشاهد وهنا تلعب المفاجأة دورها فى إثارة التوتر مستخدما مزيد من التشويق بما يحدث تحت تأثير التنويم المغناطيسى؛ إلى جانب استخدام أسلوب المطاردة الأخيرة لنرى الطبيب وهو يقود ضحيته إلى موقع الانتحار، بينما يحاول البطل اللحاق به قبيل تنفيذ جريمته. لينال المشاهد فيلماً به الكثير من التمكن الحرفى فى أسلوب سرد الأحداث؛ وإيقاع متوازٍ وظف بمهارة ليصبح أحد أساليب كمال الشيخ الإخراجية المميزة له. الفيلم عن قصة حقيقية لطبيب اسكتلندى استطاع تنويم مريضه مغناطيسياً، وأنتج الفيلم بنفسه عام 1952 بعد 4 سنوات من كتابته. وفى ‘حياة أو موت' 1954 العمل الثالث للشيخ، نوع آخر من الإثارة التشويقية الإنسانية معتمداً على قصة بسيطة لحصول طفلة من الصيدلية على مادة سامة تحملها بدلاً من الدواء، إلى والدها المريض بالبيت. الفيلم سباق مثير لجميع أبطاله على اختلاف توجههم. إننا أيضًا أمام صاحب بصمة مختلفة فى الأفلام السياسية «غروب وشروق، على من نطلق الرصاص، شىء فى صدرى، ميرامار». ومن فينا ينسى فيلم «غروب وشروق». هذا العمل الذى اكتشاف فيه كمال الشيخ موهبة رأفت الميهى كسيناريست، مقدما عملا لم يعتمد على المغزى السياسى المباشر، ولكنها دلف بنا إلى داخل نفوس البشر الواقعين تحت التأثير السياسى، لعصر الملكية لاعباً بمشاعرنا مصيبنا بصدمة كبيرة تدين العصر بأكمله خارجاً من مثلث الخيانة المعتاد فى السينما إلى فكرة أعمق وأكبر عن قصة سياسية لجمال حماد مستخدماً أسلوبه المميز فى عملية القطع بالتوازى فى العديد من أجزاء الفيلم وخاصة لحظة وصول الزوج للعمارة ودخوله الشقة وفتح باب الغرفة؛ لنعيش تفاصيل حكاية عزمى باشا رئيس البوليس السياسى مع ابنته مديحة المطلقة والتى تتعرف على طيار وتتزوجه، لكن تنتابها حالة من الملل نتيجة سفر زوجها فتقوم بالاتصال بأحد أصدقائه هاتفيًا، وتذهب إليه فى شقته، يتركها عصام لشراء بعض لوازم البيت، لكن سيارة تصدمه، فيبحث عن أحد أصدقائه لإنقاذها ولا يجد أمامه سوى سمير الذى يفاجأ بأنها زوجته وقبل الفضيحة يتم قتل سمير والضغط على عصام لكى يتزوجها ويوافق من أجل الانتقام لصديقه فيعمل مع خلية ضد القصر. وفى فيلم ‘شىء فى صدري' 1971 المأخوذ عن رواية إحسان عبدالقدوس نحن أمام مزيج سياسى مبنى على الانتهازية المتمثلة فى الباشا واختراقه لأسرة غريمه المتوفى محمد أفندى، مما يجعلنا فى حالة من الترقب مستخداماً أسلوبه التشويقى ليضف الجاذبية على الأحداث التى ربما تكون متوقعة. أما فيلم كمال الشيخ على من نطلق الرصاص أحد أفلام كمال الشيخ التى تعد بصمة مميزة لأسلوبه وله مكانته الهامة فى تاريخ السينما ويراه البعض ردًا وطنيًا على مجموعة أفلام رجعية كان همها أن تشمت من هزيمة مصر فى العام 1967. وتدور أحداث الفيلم حول اقتحام المواطن مصطفى حسين (محمود ياسين) مكتب رشدى بيه (جميل راتب) رئيس مؤسسة «المقاولات العصرية» ليطلق عليه النار وينطلق هاربًا إلى الشارع لتصدمه احدى السيارات وينقل هو ورشدى بيه إلى المستشفى نفسه. ومن خلال التحقيقات التى يقوم بها رجال البوليس تظهر على السطح خفايا ومفاسد كثيرة فى المجتمع، يقول لنا الفيلم إنها هى ما كانت خلف الهزيمة فى ذلك الحين. وفى فيلمه "الليلة الأخيرة" سيناريو وحوار يوسف السباعى وصبرى عزت، الذى يعد من أبرز أفلام فاتن حمامة، من خلال ما منحه لها كمال الشيخ من تفاصيل الغموض؛ والمقتبس عن قصة بالعنوان ذاته للأديبة مارجريت واينمن لينقل المشاهد معه إلى منطقة الشك والحيرة فى حياة «نادية برهان» التى تستيقظ بعد سهرة طويلة ذات يوم، لتُفاجأ بمرور 15 عامًا من حياتها فى لمح البصر، وأنها الآن تحمل اسم شقيقتها «فوزية»، وهى أم لفتاة تدعى «سامية»، بعدما أنكر زوجها «صلاح مهران» أى معرفة بها. تصرّ بطلتنا على حدوث لبس فى الأحداث بينها وبين شقيقتها «فوزية»، فتحاول بكل السبل الكشف عن حقيقة ذلك الغموض، ولكن لن يمهلها «شاكر» زوج شقيقتها فرصة البحث عن أى دليل يثبت شخصيتها الحقيقية لسبب بسيط جداً، هو أنه المسبب الأول والأخير لتعقيدات وتشابكات بطلتنا، لدرجة اتهامه لها بالجنون. هنا يصبح الفاصل بين نادية والجنون شعرة، حتى تقابل حبل نجاتها الوحيد: الطبيب النفسى «مجدى» الذى يشعر بأنها صادقة فيحاول حلّ هذه الأحجيَّة. وفى "بئر الحرمان" 1969 عن قصة إحسان عبدالقدوس هو أكثر أفلام كمال الشيخ اقتراباً من علم النفس، فالحالة المرضية ليست وسيلة لبناء أحداث درامية بل دراسة درامية لحالة من حالات ازدواج الشخصية. مستخدماً أسلوب الغموض ليضاعف من إثارة المشاهد وتشويقه لاكتشاف حقيقة ما يحدث. «ناهد» (سعاد حسنى) الفتاة المصابة بازدواج فى الشخصية فتكون «ناهد» الفتاة الرقيقة صباحا و«ميرفت» الفتاة اللعوب فى آخر الليل.. تذهب للعلاج ولكنها تسلك كلا المسلكين مع طبيبها المعالج والذى يقوم بدوره الفنان محمود المليجى حتى يكتشف الأخير أن مرضها نتيجة عقدة نفسية من الطفولة سببها قسوة أبيها على أمها عندما اكتشف خيانتها له.. وجعلها تعيش باقى حياتها معه تعانى من الجفاء والحرمان العاطفى.. مما يترك آثاره العميقة فى نفس الطفلة الصغيرة التى تتعاطف مع والدتها فتكبر لتعيش رغماً عنها بشخصيتها الطبيعية صباحًا وبشخصية والدتها المتعطشة للعاطفة ليلاً. كمال الشيخ أيقونة خلق المستحيل؛ والقادر على نسف التابوهات فى السينما بإحساسه القوى وعشقه للشخصيات التى يقدمها على الشاشة لذلك لم يكن غريباً أن يمنح مديحة كامل شهادة ميلادها من خلال فيلم «الصعود إلى الهاوية» عام 1978، ويتيح لها فرصة الانطلاق من الأدوار الثانية إلى أدوار البطولة المطلقة فى أكثر من 35 فيلماً سينمائياً، وخاصة أن شخصية «عبلة» التى قدمتها تختلف تماماً عن الشخصيات التى جسدتها سابقاً. مع العلم أن هبة سليم «عبلة» كانت جديرة بأن يكرهها الجمهور لكونها أول جاسوسة عربية عملت لصالح الموساد فى عام 1973، وتسببت عمالتها للكيان الصهيونى فى خسائر فادحة للجيش المصرى، الأمر الذى جعل الرئيس محمد أنور السادات يصدر قراراً بإعدامها شنقاً، رافضاً أى وساطة لتخفيف الحكم عليها. ولكن عندما أحب كمال الشيخ جاسوسة الموساد جعلها من أهم شخصيات ذاكرة السينما المصرية. ولقد أعاد كتابة سيناريو «الصعود إلى الهاوية» عن قصة الجاسوسة هبة سليم 6 مرات حتى اقتنع به. والطريف أن إيمان كانت متخوفة من المشاركة فى فيلم "الصعود إلى الهاوية"، فطبيعة شخصيتها فى الفيلم، جديرة بإنهاء حياتها كممثلة. ولكن كمال الشيخ بقدرته الفائقة على الإقناع جعلها تنضم إلى فريق العمل؛ حيث عقدت جلسات عديدة فى مبنى المخابرات العامة؛ ليتمكنوا من امتلاك نواصى تفاصيل القصة. والرائع أن المثلية الجنسية بالفيلم قدمت على أنها إحدى مسلمات الجاسوسية مقرونة بخيانة الوطن؛ وكأن كمال الشيخ يريد تقديم كل ما يبغضه المجتمع من صفات فى النساء. ولقد اختزال كمال الشيخ قضية المثلية الجنسية للانجذاب الجنسى فقط دون العاطفى، وبقبلتين بين مديحة وايمان مؤكدا ببراعة أن الشخص المثلى منساق وراء رغباته الجسدية دون إعمال عقله أو مبادئه، حتى وصل إلى مساواتها بالخيانة العظمى. وكمال الشيخ قدم شيئاً مختلفاً مع شادية (زهرة) فى فيلم "ميرامار" التى أحبها الجميع ولم تسلم من أذى البعض باسم الحب لكنها لم تنكسر ولم تيأس وظلت شامخة مرفوعة الرأس... زهرة تلك الأيقونة التى نمت فى الرواية الإشكالية لنجيب محفوظ بكل ما تحتويه أطروحتها الفكرية بأبعادها الدلالية، عندما أطلت علينا كرواية نشرها نجيب محفوظ عام 1967 كأحد مواقفه الناقدة للثورة ومفرزاتها الاجتماعية فكانت زهرة حاملة المشعل للمعارضة وأسكنها الإسكندرية، فى بنسيون «ميرامار». وعندما تمّ إنتاج فيلم ميرامار عام 1969 من قبل المؤسسة العامّة للسينما، بإخراج كمال الشيخ وسيناريو وحوار ممدوح الليثى، وقامت شادية بدور زهرة فحولتها مع كمال الشيخ إلى إنسان من لحم ودم؛ ومن يعيد قراءة الرواية ثانية بعد مشاهدة الفيلم سيجد شادية تتحرك بحريتها بين سطورها مانحة بطلتها قبلة الخلود بين بطلات الروايات. وبلغة كمال الشيخ السينمائية الشاعرية التى تميزه؛ ورتمه الناعم بلا مط أو تطويل، وإيقاعه المنضبط إلى حد جعلنا نسمع سيمفونية الأداء المبهر لشادية، فرَسَم بورتريه لزهرة مختلف وأكثر إنسانية لوجوهها الذى هو مرآة لردود أفعالها بدون كلام، وخاصة فى لحظة تعرية جميع الوجوه أمامها، لتقف هى الوحيدة بلا مسك أو رتوش.! وفى "الرجل الذى فقد ظله" 1968 ثمة اعتماد على المطاردات والتحقيقات والجريمة مستعينا بالبناء الدرامى الدقيق لشخصية الصحفى الانتهازى يوسف عبدالحميد السويفي الذى يبيع كل شىء ليخلق من نفسه بطلا ويركب الموجة القادمة. آخر أفلامه «قاهر الزمن» عام 1987، أحد إرهصات الخيال العلمى الذى لم يبدأ بإحداث تهم الناس العادية وربما هذا ما أحدث أسلوب الصدمة لدى النقاد عند صدوره؛ فتدور قصته حول الشاب كمال والذى تخرج من كلية الآداب قسم الآثار ليبحث فى تاريخ الحضارة الفرعونية عن الإيمان بالبعث وحياة الخلود ومراكب الشمس، فيما يعمل ابن خالته فى جريدة ويحاول التحقيق فى جريمة اختفاء مريض من مستشفى؛ فى هذا العمل كان كمال الشيخ سابقاً عصره باستعراضه تضاريس الحياة ومنحنياتها، خارجاً عن المألوف، فقفز من نمط يعيش فيه عامة الناس إلى نمط وزمن لم يتعودوه، سيناريو المشبع بالأفكار الذى وضعه نهاد شريف والتصوير المبهر لرمسيس مرزوق. وموسيقى جورج كازازيان. مع أسلوب إخراج كمال الشيخ الدقيق العالم بتفاصيل ما يريد قوله مستخدما أسلوبه التقنى المتفرد.