»خلاص .. مفيش مناقشة« بهذه الكلمات ختم الجنرال »واطسون« حديثه مع سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود وحمد الباسل. وذلك يوم 6 مارس 1919. كان الجنرال يفعل ذلك بتكليف من السيد »ريجينا وينجت« المندوب السامي البريطاني في مصر. حيث كان قد رفض من قبل سفر الوفد المصري إلي فرنسا، لعرض المطلب الشعبي، بالاستقلال التام. أحوال مصر في ذلك اليوم كيف كانت؟ كان الملك فؤاد الأول علي رأس البلاد، والإنجليز يحتلون الوطن، الذي كان يغلي منذ احتلاله عام 1882، بعد القضاء علي ثورة أحمد عرابي. وعن ذلك يقول المفكر سلامة موسي: »في عام 1882حكم علينا الإنجليز، بمعاونة المستبدين المصريين، بالموت السياسي، وبقينا - والكلام ل سلامة موسي - في هذا الموت إلي عام 1919، حين بعثنا وشرعنا نعود للتاريخ«. انتهي اللقاء مع الجنرال »واطسون« كموندان عام الانجليز في مصر، وخرج الوفد بقيادة سعد زغلول، وكلهم تصميم علي ما هم ذهبوا إليه. فإذا لم تكن هناك »مناقشة« - حسبما قال لهم الجنرال - فالمؤكد أن هناك شيئاً آخر، يلوح في الأفق، فلتكن »ثورة«! الملك فؤاد الأول، لا يعلم شيئاً عن الرعية التي من المفروض عليه رعايتها، الوضع السياسي مأزوم، والاجتماعي متدهور، والاقتصادي صعب، والمحتل باق.. ومن واقع مذكرات لمواطن يدعي »وليم« كان يقيم في حي الرمل بالإسكندرية نقرأ كيف كانت حياة المصريين العادية قبل اندلاع الثورة. يقول: نزلت إلي السوق حتي أشتري بعض متطلبات الحياة وكانت كالتالي: اشتريت ب 8 قروش خضار و 13 صاغ لحمة و 5 صاغ بيض، وب 26 صاغ سمك.. وهي كميات تكفي بيتي لعدة أيام! - لم تمر أيام طويلة عن الجلسة التي جمعت سعد زغلول ورفاقه مع الجنرال. وكان الجنرال وقتها قد حذرهم من نشاطهم ضد الحماية البريطانية. وقال لهم لا تعرقلوا تشكيل الوزارة الجديدة، التي ستأتي بعد استقالة وزارة رشدي باشا. مر علي هذا اللقاء 48 ساعة فقط.. واصل الوفد برئاسة سعد زغلول الضغط علي الانجليز من أجل السفر، هنا قرر الانجليز القبض علي سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود حمد الباسل ونفوهم إلي جزيرة »مالطا« كان ذلك يوم 8 مارس 1919 في الصباح تحركت القيادات الوطنية إلي بيت الأمة، وفي منتصف نهار 9 مارس 1919 جاء طلبة جامعة القاهرة.. ورفض الطلبة مبررات القيادات، التي طالبتهم وقتها بالصبر، وتحكيم المنطق والعقل.. وقالوا للطلبة عودوا إلي دراستكم، وبالفعل عاد الطلبة، لكن وهم في طريق العودة، ثارت ثورتهم، وبدأت الثورة سلمية، تحولت إلي شعبية عارمة، حاولت السلطة العسكرية البريطانية التصدي لها، لكنها فشلت. وبدأت اضرابات العمال والموظفين والمحامين وكل فئات الشعب المصري. وتوقفت الحياة بصورة كاملة، بعدما امتدت الثورة إلي المدن والقري، ودمر الفلاحون قضبان السكة الحديد، وعواميد التليفونات والتلغراف والقطارات الحربية البريطانية. كان شعار الطلبة وقتها الذي بدأت به المظاهرات هو »الاستقلال التام أو الموت الزؤام« شهداء الثورة واستمرت المظاهرات، وتعامل الانجليز معها بالرصاص الحي، وبدأ الشهداء يتساقطون. يوم 12 مارس حدثت مظاهرة في الإسكندرية وطنطا، ويوم 14 مارس سقط 4 قتلي و51 جريحا وفي طنطا 11 قتيلاً و31 جريحاً. وفي نفس اليوم سقط 14 شهيداً في الإسكندرية و25 جريحا. وفي الفيوم سقط في يوم واحد 400 مصري ما بين شهيد وجريح. ومن مدينة إلي قرية يسمع دوي طلقات الرصاص، فيسقط الشهداء ليكتب عنهم د. طه حسين قائلاً »رحم الله شهداء ثورة 1919 ، لقد صغرت حياتهم في نفوسهم لنكبر نحن في نفوسنا. لقد ماتوا فأحيانا موتهم. رحم الله الشهداء، لم يكن أحد منهم يفكر في أحد منا، بل لم يكن أحد منهم يعرف أحداً منا، إنما كانوا يفكرون في مصر، ويعرفون مصر، ويبذلون نفوسهم في سبيل مصر. وكنا نحن نحيا بهذا كله، بل بأنباء هذا كله«. لقد شق الفلاح الأرض، مثلما طلب منه الثائر جمال الدين الأفغاني، الذي ظل يطالب بالثورة منذ أيام الخديو إسماعيل الذي كان يهاجمه علانية ويقول للناس »أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك« صوت الأفغاني مثلما وصل إلي الشعب في 9 مارس 1919، وصل - أيضا - إلي الشعب في 25 يناير 2011. إنها عبقرية شعب قادر علي الصبر، وقادر أكثر علي الثورة غير أن الحكام - دائماً - لا يعقلون، ويظلون في ظلمهم يتمادون، حتي تأتي اللحظة، وتثور الثائرة، وتدور الدائرة، وتحكم حلقاتها علي رقاب السلطة، فتسقط، علي مقصلة الثورة ، إلي غير رجعة. - وفي زمن الثورة تكتشف مصر نفسها كما يقول الكاتب والمؤرخ صلاح عيسي في ثورة 1919 اكتشفت مصر هويتها القومية، وسعت بقوة في أعقابها للبحث عن أهليتها للاستقلال الوطني ولحكم نفسها بنفسها. ولقد فجرت الثورة طاقات مشابهة في كل المجالات - كما يقول عيسي - ففي الإبداع المصري كان هناك مسرح سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ومن أدب طه حسين وتوفيق الحكيم إلي صحافة محمد التابعي وفكري أباظة ومن نقد العقاد وشكري إلي »تأريخ« عبدالرحمن الرافعي وشفيق غربال، وكان هناك مدرسة اتولدت من رحم ثورة 1919 في الفكر الوطني تزعمها سلامة موسي ومحمد حسين هيكل، وعبدالقادر حمزة واسماعيل مظهر وأحمد لطفي السيد كما أفرزت الثورة مصريات رائدات مثل هدي شعراوي ونبوية موسي واستر فانوس ودرية شفيق وأمنية السعيد. لماذا قامت الثورة؟ في ظل المعاملة القاسية التي عاناها المصريون من قبل البريطانيين والأحكام العرفية التي صدرت ضد المصريين، والرغبة في الحصول علي الاستقلال، قامت الثورة، وهي تعتبر أول ثورة شعبية في افريقيا وفي الشرق الأوسط، تبعتها ثورة الهند ، والعراق، والمغرب وليبيا. لقد لاقت الجماهير الفقيرة ظلم واستغلال أربع سنوات هي عمر الحرب العالمية الأولي، حيث كانت تصادر ممتلكات الفلاحين في الريف من أجل المساهمة في الحرب. وتم تجنيد الآلاف من الفلاحين بصورة قسرية للمشاركة في الحرب تحت مسمي »فرقة العمل المصرية«. ونقصت السلع، وتدهورت الأوضاع المعيشية في الريف والمدن. وشهدت القاهرةوالإسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين. حاولت الحكومة وقتها مواجهة الغلاء، لكن كلها فشلت، هنا تحرك سعد زغلول وقرر تكوين وفد مصري للدفاع عن القضية بعد الحرب العالمية الأولي في وقت الهدنة. اجتمع سعد زغلول، ومصطفي النحاس، ومكرم عبيد، وعبدالعزيز فهمي، وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد.. وأطلقو علي أنفسهم الوفد المصري. وقام الوفد بجمع التوقيعات من أصحاب الشأن، بقصد إثبات صفتهم التمثيلية، وجاء في الصيغة، نحن الموقعين علي هذا أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول.. وفي أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر، تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل. واعتقل سعد زغلول ونفي إلي مالطة ورفاقه، لتنفجر الثورة. نهاية الثورة اضطرت انجلترا إلي عزل الحاكم البريطاني وافرج عن سعد ورفاقه، وعادوا لمصر، وسمحت انجلترا للوفد بالسفر إلي مؤتمر الصلح في باريس لم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح بباريس لمطالب الوفد المصري، فعاد المصريون إلي الثورة وزاد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، فألقي الانجليز القبض علي سعد زغلول مرة أخري، وتم نفيه إلي جزية سيشل في المحيط الهندي. فازدادت الثورة اشتعالاً، وحاولت انجلترا القضاء علي الثورة بالقوة ولكنها فشلت. ثورة نموذج يعتبر الباحثون ثورة 1919 »ثورة نموذج« من حيث قدرتها علي استيعاب القوي الاجتماعية المختلفة. ولقد شقت ثورة 19 مجري الحركة الوطنية المصرية حول ثابتين سيادة الأمة بوجهيها الاستقلال والدستور. والوحدة الوطنية بقاعدتيها المواطنة والعدالة الاجتماعية. وخلقت الثورة شعار الدين لله والوطن للجميع. وتمر السنون، ويكافح الشعب حتي يخرج الانجليز، ويتوالي عليه الحكام، يمارسون عليه كل أنواع الظلم والاستبداد والقهر، فيقرر أن يكرر ثورته بعدما يقرب من 92 عاماً، في 25 يناير 2011، حيث خرج هذه المرة الشباب - وليس الطلبة - ومعهم الشعب، ليعيد التاريخ - بصورة أو بأخري - نفسه. وإن كانت الصيحة التي زلزلت عرش المحتل في 9 مارس 1919 الاستقلال التام أو الموت الزؤام، فإن شعار ثورة 25 يناير 2011 هي الشعب يريد إسقاط النظام لينتهي عصر من النهب والقهر والظلم، دام سنوات ينهش في جسد الوطن. وعاشت مصر!