اللجنة العامة بالنواب توافق علي موازنة المجلس    «الأخبار» في رحلة مع السلع من تاجر الجملة إلى المستهلك    ارتفاع مؤشرات البورصات الخليجية بدعم من قراءة التضخم الأمريكي    البنك التجاري الدولي يتقدم بمستندات زيادة رأسماله ل30.431 مليار جنيه    «مياه سوهاج»: بدء برنامج التدريب الصيفي لطلاب المعاهد والجامعات خلال شهر يوليو المقبل    انتخابات أمريكا 2024| هل يؤثر ما وعده «ترامب» لكبار المتبرعين على الديمقراطية؟    فيديو.. مصر تواصل تحركاتها لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة إلى أهالي قطاع غزة    اتحاد الكرة يفرج عن مستحقات لاعبي المنتخب قبل مباراتي بوركينا وغينيا    «كوني قدوة».. ندوة تثقيفية عن دور المرأة في المجتمع بالشرقية    علاء نبيل يعدد مزايا مشروع تطوير مدربي المنتخبات    الآن.. نتيجة الشهادة الإعدادية بالإسكندرية عبر هذا الرابط    رئيس جامعة القاهرة: استحداث جائزة «الرواد» لإبراز نخبة العلماء المؤثرين    26 عرضا بالمهرجان الختامي لفرق الأقاليم المسرحية    جورج وسوف يحضر لأغنية جديدة باللهجة المصرية (تفاصيل)    «رجلي اتكسرت».. سوسن بدر تكشف كواليس إصابتها أثناء تصوير «أم الدنيا» (فيديو)    لمواليد برج الحمل.. التوقعات الفلكية لشهر يونيو 2024 (التفاصيل)    لمدة يومين.. صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة فوكة    مفاجأة.. مدرب ليفربول يحسم مستقبل محمد صلاح    خاص رد قاطع من نادي الوكرة على مفاوضات ضم ديانج من الأهلي    «التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    إصابة سائق إثر حادث انقلاب سيارته فى حلوان    هتجيب الدرجة النهائية فى الفيزياء للثانوية العامة لو راجعت معانا.. فيديو    متحف للآثار المسروقة والمباعة بشكل غير قانونى فى إيطاليا.. اعرف التفاصيل    600 بالون قمامة.. كوريا الشمالية تعاقب جارتها الجنوبية بالنفايات (فيديو)    توني كروس يصل ل300 انتصار مع الريال بعد التتويج بدوري أبطال أوروبا    عميد الكلية التكنولوحية بالفيوم يتفقد لجان امتحانات الفصل الدراسي الثاني    التنمية المحلية: 1.1 مليار جنيه استثمارات لتطوير منظومة المخلفات بالجيزة    آخرهم نسرين طافش.. نجوم كشفوا عن وصيتهم للجمهور    طرق حديثة وحماية من السوشيال.. أحمد حلمى يتحدث عن طريقة تربية أولاده (فيديو)    همت سلامة: موقف مصر ثابت من القضية الفلسطينية وتصريحات الرئيس السيسى خير دليل    سنن الأضاحي وشروط الأضحية السليمة.. تعرف عليها    موعد وقفة عرفات والأدعية المستحبة.. تعرف عليها    الإفراج عن المحبوسين على طاولة الحوار الوطني    في دقيقة واحدة.. طريقة تحضير كيكة المج في الميكروويف    اليوم العالمى لمواجهة الحر.. كيف تحمى نفسك من النوبات القلبية؟    تأجيل إعادة إجراءات محاكمة متهمين ب "جماعة حازمون الإرهابية" ل 2 سبتمبر    محمد الشيبي.. هل يصبح عنوانًا لأزمة الرياضة في مصر؟    الأهلي يكرم فريق سيدات اليد    الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصفه قرى وبلدات جنوبي لبنان    4 أعمال مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. احرص عليها    العمل: 3537 فُرصة عمل جديدة في 48 شركة خاصة تنتظر الشباب    كولر يوجه صدمة قوية لنجم الأهلي (خاص)    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل مسن في روض الفرج    توجيه جديد لوزير التعليم العالي بشأن الجامعات التكنولوجية    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    حج 2024| «الأزهر للفتوى» يوضح حكم الحج عن الغير والميت    بدء تفويج حجاج القرعة من المدينة المنورة الى مكة المكرمة    وزير الإسكان ومحافظ الإسكندرية يتفقدان مشروع إنشاء محور عمر سليمان    وزير المالية: مشكلة الاقتصاد الوطني هي تكلفة التمويل داخل وخارج مصر    تحرير 139 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    توريد 125 طن قمح لمطحن الطارق بجنوب سيناء    في زيارة أخوية.. أمير قطر يصل الإمارات    النواب يحيل 3 اتفاقيات للجان النوعية في بداية الجلسة العامة .. اعرف التفاصيل    غرفة الرعاية الصحية: القطاع الخاص يشارك في صياغة قانون المنشآت    محافظ كفر الشيخ يعلن أوائل الشهادة الإعدادية    وزيرة التخطيط ل"النواب": الأزمات المتتالية خلقت وضعًا معقدًا.. ولابد من «توازنات»    تحرير أكثر من 300 محضر لمخالفات في الأسواق والمخابز خلال حملات تموينية في بني سويف    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطرُ إيطالية
نشر في الوفد يوم 28 - 04 - 2012

رغم أَن السفَر كان دائماً من أهم معالم حياتي ، وهو ما أخذني لأكثر من مائة دولةٍ على سطحِ الكرةِ الأرضيةِ ، فإن أسفاري إلى إيطاليا حتى سنة 2008 لم تتجاوز أسبابها سبباً واحداً هو «السياحة» . ولكن حدثين وقعا خلال سنة 2008 غيرا من هذه الحال ، فأصبحت الخيوطُ التي تربطني بإيطاليا عديدةً ووثيقةً وعميقةً
. أما السببُ الأول فكان صدور طبعة إيطالية من كتابي عن العقل العربي . وأما السبب الثاني فكان حصولي على أهم الجوائز الثقافية الإيطالية وهي جائزة كافور غرينزان. منذئذ ، توالت سفرياتي لهذا البلد شديد التمَّيز إما بدعواتٍ من عددٍ من جامعاتِ إيطاليا أخذتني لمعظم ربوعها ، وإما للحديث في تجمعاتٍ ومحافلٍ أعدها ناشرُ كتبي بالإيطالية للحديثِ عن تلك الكتب. ومنذ أيام كنت في إيطاليا (مجدداً) بدعوةٍ من عددٍ من جامعاتِ أقصى الجنوب الإيطالي حيث المناخ الثقافي الأقل تأثراً بأوروبا والأشد تأثراً بالبحرِ المتوسط.
بدأت الرحلةُ بتجربةٍ تستحق أَن يُكَتب عنها . في الدقائق الأولى للرحلة الجوية من القاهرة إلى روما ، انغمستُ في حوارٍ محتدٍ بين رئيس طاقم الضيافة الإيطالي من جهة وبين مصريين كانا يرتديان الزي الأزهري. ونظراً لعدم وجود لغة مشتركة بين الإيطالي والمصريين، فقد وجدتُ نفسي منغمساً بينهما. كان رئيسُ طاقم الضيافة الإيطالي متمسكاً بضرورة جلوس الأَزهريين على المقعدين المخصصين لهما، بينما كان الأزهريان متمسكين بالجلوس على مقعدين في درجةِ رجال الأعمال. وضحت للأزهريين ضرورة شغلهما للمقعدين المحددين في بطاقة الرحلة ، فأبديا شديد الاستياء من تكبر وتعنت الأوروبيين! فلما باءت محاولاتي لإقناعهما بضرورة احترام النظام بالفشل، لم يبق أمامي إلا أن أَذكر ما كنت لا أريد ذكره وهو أنهما اشتريا بطاقتي سفر على الدرجة الاقتصادية، وهو ما يحول بينهما وبين الجلوس في قمرة رجال الأعمال. زاد توضيحي هذا استياء الشيخين من تفكير ومعاملة الأوروبيين!! وبعد حوارٍ لم تكن هناك شواهد على أنه سيصل إلى نهايةٍ، جاء قائدُ الطائرة وأعطي الشيخين خيارين لا ثالث لهما: إما الجلوس على المقعدين المخصصين لهما أو مغادرة الطائرة. امتثل الشيخان على الفور وتوجها إلى المقعدين المخصصين . وما إن جلست أنا على مقعدي حتى انشغل عقلي بالتفكيرِ في شيخٍ أزهري آخر توجه إلى أوروبا في سنة 1826 لمرافقةِ ونصحِ مجموعة الشباب المصريين الذين أرسلهم محمدُ علي في تلك السنة للدراسة بعددٍ من معاهد فرنسا العليا. أحاط بي طيفُ هذا الشيخ الأزهري الرائع ( رفاعة رافع الطهطاوي: 1801/ 1873) الذي أقام في فرنسا لخمس سنوات حتى 1831. وبعد عودته لمصرَ أخذ يسطر للمصريين روائع تجربته وفكره في عدة كتب من أهمها «تخليص الابريز في تلخيص باريز» و «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»... وغيرها، بالاضافة للكتب التي قام بترجمتها من اللغة الفرنسية للغة العربية والتي زادت على خمسة وعشرين كتاباً. ومن عاداتي في القراءة معاودة مطالعة بعض ما قرأتُ أكثر من مرةٍ. ومن بين ما أُعاود مطالعته منذ أربعين سنة ، المؤلفات الرائعة لهذا الشيخ الفذ «رفاعة الطهطاوي» العظيم الذى لم يذهب إلى فرنسا للتعليم وإنما ليكون إمام البعثة الدراسية المشرف على الجانب الديني والأخلاقي لأعضائها . ومع ذلك فقد دله عقلُه الراجح وطبيعتُه السوية على الإعجابِ بمنجزاتِ الحضارة الغربية ؛ ليس فقط في جانب تطور العلوم التطبيقية ، وإنما(أيضا) في مجالات أخرى ثقافية وفكرية وسلوكية. فقد أعجب الطهطاوي بالاهتمام بالتعليمِ العصري في أوروبا وباحترام الرجال للنساء وبتخطيطِ ونظافةِ المدن وبصدق الإنسان الأوروبي وإتقانه لعمله. وبينما دلتني تجربةُ الطائرة (من روما للقاهرة) منذ أيام على عيبٍ جسيمٍ في ثقافة الشيخين الأزهريين الذين أخبراني بإنهما يقيمان في روما منذ خمس سنوات ومع ذلك لا يتكلم أيهما أية لغة غير العربية ، ولا يشعر أيهما بفيض مزايا الحضارة الغربية ، فقد كان الطهطاوي على تفيض ذلك يتقن الفرنسية إتقاناً كاملاً رغم أنه لم يكن يعرف حرفاً منها قبل سفره لها سنة 1826 (فى الحقيقة أنه بدأ يتعلم الأبجدية الفرنسية على ظهر السفينة التى أقلته من الإسكندرية لمارسليا). ولاشك عندي (كقارئ كان ولايزال مولعاً بالطهطاوي)أَن أَكثر ما أعجب به الطهطاوي في فرنسا هو الديمقراطية واحترام الإنسان واحترام المرأة وتقديس التعليم والمعرفة . ذكرني الشيخان الأزهريان الرافضان لنظام السفر على المقاعدِ المخصصةِ لكل مسافرٍ بشيخٍ من أجل شيوخ الأزهر كان النورُ (وليس الظلام) هو ما سكن عقلَه وصدرَه ، فلم يمنعه مانعٌ من أن يرى ويرصد ويوقر مزايا أعظم الحضارات الإنسانية على سطح الكرة الأرضية منذ وجدت أول حضارة إما على ضفاف نهر النيل أو على ضفاف دجلة والفرات فيما يعرف الآن بالعراق او بلاد ما بين النهرين.
في أقصى الجنوب الإيطالي وفي مدينة تطل على البحر الأَدرياتيكي اسمها برينديزي ( والاسم يعني باللاتينية «قرون الغزال» ) وجدت نفسي وجهاً لوجهٍ أمام صورة زيتية لعالم إيطاليا الشهير غاليليوغاليلي ، فشعرت بغصة في قلبي إذ تمثل أمامي على الفور واقع إننا نعيش اليوم في مصرَ مناخاً ثقافياً رديئاً كالمناخِ الذي أحاط بهذا العالم الجليل الذى عاش ما بين 1564 و 1642 والذى يعرف عند الشعوب المتحضرة بأبي العلوم الحديثة . فالعالمُ الأشهر عاش تجربةَ محاولة الثقافة الدينية المظلمة أَن تتسيّد على المجتمع بل وان تتسيد أيضاً على الحقائقِ العلميِة وأن تخضعها لما كانت تظن أنها حقائقٌ دينيةٌ.
في فرنسا، هام الطهطاوي حباً بالحرية، وبالتقدم، وبتقدير المرأة. وهناك تأصل اقتناعه بأن اختلاط النساء بالرجال وحريتهن ومظهرهن العصري ليسوا مما يؤدي بالضرورة إلى الفساد والانحلال. وأعجب الشيخ المستنير برقص رجل مع امرأة. ووصف هذا الرقص بأنه فنٌ من الفنون وأنه لا يتضمن (بالضرورة) أي عهرٍ (هذه كلمات الطهطاوي ذاتها). ومن أروع ما جاء (بقلم الطهطاوي) في «تخليص الإبريز» قوله عن الأوروبيين بأن عقولَهم (وليس نصاً دينياً) «هي التي حكمت بأن العدل والإنصافَ من أسبابِ تعميرِ الممالك وراحة العباد» . ولا شك ان الطهطاوي كان ثمرةَ مشروعِ التحديث العبقري الذي قاده محمدُ عليِّ. أما الشيخان الازهريان اللذان قابلتهما منذ أيام على متن طائرة إيطالية فلا شَكَ انهما من ثمارِ حقبةِ العطبِ العقلي والضحالة المعرفية والعطاة الفكرية والردة الثقافية لذهنية كثبان الرمال وما قبل العصور الوسطى حالكة الظلام ، وهى ذهنية تتسم بالعديد من المثالب لعل أهمها (وأخطرها): أن فكر أفرادها لا يعكس إيماناً حقيقياً بالتعددية ولا يقوم على قبول الآخر ولا تتسم آراء ووجهات نظر أفراده ب «النسبية» (فهم ملاك الحقيقة المطلقة) ، وهى ذهنية تتصف بموقف رجعي من المرأة ولا نصيب يذكر لها من السماحة الدينية والثقافية، كما أنها ذهنية طاعة واتباع وليست ذهنية نقد وإبداع... وهي ذهنية لا تحتفي (بل تقهر) «العقل النقدي» ولا تؤمن فى أعماقها ب «الإنسانية»، فالناس عندهم إما «نحن» (دار الإسلام) وإما «هم» (دار الحرب)... وهى قسمة لا تدع مجالا لمفهوم الإنسانية ، ودع جانباً الآن مفهوم السلام العالمي (لصاحبه الفيلسوف الأعظم إيمانويل كانط) ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.