الأمة الإسلامية اليوم تمر بمرحلة خطيرة من تاريخها الحضاري، تلك المرحلة تتطلب من الأمة جهودًا علمية وفكرية وعملية لتجتاز هذه المرحلة بسلام. وتلك الجهود لابد أن تسير وفق سنن الله في الكون، لابد أن تفهم الأمة الإسلامية السنن الإلهية في فقه التمكين، وتتعرف على لوازم هذا التمكين، لكي ترسم أهدافها، وتسعى لتحقيق مآربها وفق السنن الإلهية الجارية على الشعوب والأمم والمجتمعات؛ إذ إن هذا العالم لا يسير جزافًا. كتب الله على خلقه أنه: )لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ( فيجب على المسلمين أن يتخذوا من هذه الآية قانونًا عامًا للتغيير بكل مستوياته، التغيير الروحي، والعلمي، والتقني، والاجتماعي، والأخلاقي، والعسكري، والصحي، والتعليمي... حتى تصل بالأمة إلى هدفها، وهو التمكين لدين الله في الأرض. وبالبحث في وقائع التاريخ يتأكد لنا أن الله تعالى يعلمنا بهذه الآية وبآيات القرآن كلها أن التغيير يخضع لسنن ربانية علينا أن نكتشفها ونوظفها في بنائنا الحضاري بكل مستوياته. وبهذا يتحقق الإيمان، والإيمان بهذا المعنى جهاد حقيقي، بمفهومه الكبير وفضائه الواسع، وهذا الجهاد هو سبيل الهداية إلى السنن الإلهية والقوانين الربانية، وهو من أخص شروط الحضور الميداني وممارسة الفعل الحضاري )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ( (العنكبوت: 69). إن الله قد جعل لكل شيء سببًا، وأمر العباد بتلمس تلك الأسباب حتى يطرقوا سنن الله في ملكوته فتتحقق لهم النصرة والغلبة، فأيما أمة قرعت الأسباب من بابها، وتلمست ما كتب الله على الكون من سنن كُتبت لها السيادة الحضارية، وأيما أمة باتت كسلانة عن البحث في هذه الأسباب أضحت وهي لا تملك من أمر العالم شيئًا بل لا تملك من أمر نفسها شيئًا، وهذا هو حالنا اليوم!! ينبغي أن نصنع أنفسنا بأنفسنا، فوعاء الحضارة لا يُقتبس، إن لم نصنع حضارتنا بأيدينا فلن تكون لنا حضارة أبدًا لأن الحضارة لا تصنع بمنتوجات حضارية مستوردة، بل هي التي تصنع المنتوجات الحضارية، وعلى الرغم من أن الفكر الإسلامي يمتلك طاقات كبرى لحماية الشخصية المسلمة من الذوبان، إلا أن قضية الاقتباس من الآخر من أخطر المسائل التي اعترضت وما زالت تعترض الفكر الإسلامي المعاصر، وهي نبض التأخر الحضاري للمسلمين اليوم، فإن هي توقفت أو رُشِّدَت فسوف نرى نور الحضارة في سماء بلادنا الإسلامية. إن المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية اليوم أن أفرادها يفكرون فيما لهم من حقوق ولا يسعون لأخذ هذه الحقوق، يفكرون في ما لهم من مطالب، ولا يؤدون ما عليهم من واجبات، وهذا الذي نشاهده من حال الأمة اليوم تجاه القضايا العامة والخاصة؛ إن شعبًا كالشعب الفرنسي عندما أراد عزل رئيسه قام بثورة لم تُفضّ حتى تم عزل هذا الرئيس، لكن الشعوب العربية اليوم يرَوْن العار يصمهم تجاه قضياهم المصيرية، وقد رأوا حكامهم مكتوفي الأيدي أمامها ولم يتحرك منهم ساكن اللهم إلا أصحاب الفكر السليم منهم، وهم قلة إذا ما قورنوا بأعداد الأمة الإسلامية، وقد خاطب الله رسوله فقال: )وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (التوبة: 105). لقد غابت رسالة الإسلام من ذهن المواطن المسلم، وهذه الرسالة هي العقيدة، التي تؤثر على مزج المقومات الحضارية بعضها ببعض، وكل محاولة من الأمة الإسلامية في طريق الحضارة بعيدة عن النظرة العقدية ستبوء بالفشل؛ لأن حقيقة الفكرة الإسلامية أو العقيدة الإسلامية واقع صامد، وكائن موجود في عمق الشخصية المسلمة والمحيط الاجتماعي للإنسان المسلم، وهي تستجيب دائمًا لطموحات الإنسان المتجددة، بشرط التفاعل مع هذه الفكرة عقيدة وأخلاقًا وحضارة. إن الرسالة الإسلامية قد أصبحت شغلا لعدد كبير من أفراد الأمة الإسلامية، لكن – وبكل أسى – كان إحياء هذه الرسالة في أذهان عدد كبير من هؤلاء المتحمسين للدعوة الإسلامية إحياء مشوهًا، كان إحياء يعوذه الإحياء؛ إذ فصلوا دنياهم عن دينهم وهم لا يشعرون، حيث أصبحت العقيدة عندهم مرتبطة بالآخرة، وأما الدنيا فعزفوا عنها، وطلقوها بينونة كبرى ليتزوجها غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فيسودوا العالم، ويبقى المسلم في محرابه ذليلا لا يملك قرار نفسه فضلا عن قرار العالم الذي أمر بالمبادرة في إصلاحه؛ لأنه لا يملك قوت نفسه. والكثير من المسلمين يعيبون على العلمانية فصلها الدين عن الدولة، وهم قد فصلوا دينهم عن دنياهم، وياليتهم أحيوا عقيدتهم إحياء كاملا بهذا الفهم، بل إنهم اختزلوا دينهم في مجموعة من الشكليات التي لا تغني عن الجوهر شيئًا. وما ينبغي أن نعيه أن علماء الغرب يلْمحون هذه الاتجاهات ويروجون لها، بل ويلفتون أنظار الحكام والأمراء إليها، ليساعدوها على نشر سمومها في أذهان الشباب عبر القنوات الإعلامية، والبرامج المدرسية، ثم إن هؤلاء العلماء المغرضون يحذرون الحكام والأمراء من الشباب الواعى الذي يُرجَى من ورائه الخير لهذه الأمة، ويَحْلُوا لهم دائمًا أن يسموا هؤلاء الشباب الراشدين إرهابًا، وهو بحق إرهاب، لكنه إرهاب على من حارب الله ورسوله، وحارب دين الله في الأرض "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال: 60) لذلك كانت دعوة الإسلام إلى العلم؛ لأن العلم هو السلاح الفاعل في التمكين لكل أمة، وما تحكم فينا الغرب اليوم إلا بالعلم، ومن أهم مظاهر اهتمام الإسلام بالعلم والتعلم، أن كان أول أمرٍ من أوامره: "اقرأ". وحضّ نبيُّه صلى الله عليه وسلم على تعلم العلم وتعليمه، وجعل مداد العلماء خيرًا من دماء الشهداء، ورغّب الإسلام في طلب العلم ولو كان هذا العلم في الصين، بل جعل طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة. فدعوة الإسلام إلى العلم دعوة فيها صراحة ووضوح، والعلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم الذي يدعو إلى التفكير العلمي، بضوابطه ومناهجه وآلياته، وبحسبي دليل قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء" (فاطر: 27 - 28). وكلام ربنا في هذا الصدد واضح، وليس أمامنا طريق لاسترداد فاعليتنا الحضارية إلا العودة لكتاب الله تعالى، فنستنطق سننه في الكون، ونتدبر آياته بحثًا عن شهود حضاري فاعل، يحمل الأمة من سباتها إلى يقظة تفتح بها الدنيا كلها كما فعلها المسلمون لنا من قبل. ---- مدير المركز الحضاري للدراسات المستقبلية