تحديد المكان ليس مشكلة فخلف أبراج ساويرس العملاقة التى تطل بتعال على نيل القاهرة تقع "عشش رملة بولاق".. بينما تحديد الزمان الذى يعيش فيه سكانها هو الصعوبة التى قد تواجهك، فربما كان عليك أن ترجع بالزمن لقرون طويلة مضت حتى تصدق أن ما تشاهده بعينيك حياة طبيعية لبشر من المفترض أنهم يعيشون داخل قلب القاهرة.. هذا الوصف لرملة بولاق جاء على صفحات مجلة آخر ساعة في تحقيق نشرته بعددها الأخير.. فالمنطقة لا يوجد بها صرف صحى .. خرطوم موصول بحنفية عمومية يمر على البيوت يتناوب الأهالى استعماله ليسدوا حاجتهم من الماء، الظلام الذى يغرق الطرق الضيقة جعل الشعور بالخوف يلازمنا طيلة رحلة قادنا فيها الفضول لمعرفة كيف يحيا هؤلاء البشر بلا حياة! "ده بيتى".. تشير نجوى أبو المجد إلى إحدى العشش، وتقول : إحنا غلابة ..مدفونين بالحيا ..سامعنى ..أنا مش خايفة! معندناش حمام..بيسمونا منطقة الصفيح عشان بنقضى حاجتنا –لامؤاخذة- فى صفيحة! ثورة الصغير"شريف" عدم الترحيب بالكاميرا وجدناه من شاب صغير عرفنا فيما بعد أن اسمه "شريف" ، اعترض طريقنا وهو يحذرنا من تصوير أحوالهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات منقرضة، نظراته الآمرة وصوته المنفعل جعلتنا نواجه ثورته الصغيرة بحذر ، كان علينا أن نقنعه بضرورة نقل الصورة القاتمة التى نراها إلى من يهمه الأمر..سخر شريف مما نقوله وأخبرنا بزملاء لنا من الصحافة والإعلام أتوا إلى هنا من قبل.. ما الذى حدث، هل اهتم بنا أحد؟..أو أشفق علينا؟..أو تطوع بمد ماسورة صرف صحى تنقذنا مما نحن فيه؟..أو قام بتوصيل الماء إلى بيوتنا الفقيرة؟ وينظر شريف إلى أبراج ساويرس التى تنطح السحاب بقبابها وهويحدثنا عن القضايا التى رفعها رجل الأعمال ليتمكن من طرد سكان العشش وتمكينه من الأرض. أسئلة شريف التى لم ينتظر إجابتها أجبرتنا على الصمت، فى الوقت الذى لم تمنعنا فيه من توجيه دعوة مفتوحة إلى محافظ القاهرة ورئيس الحى لزيارة الناس هنا والتعرف على أحوالهم.. فهل يقبل السيد المحافظ أن يقيم مع أسرته لمدة يوم واحد فى إحدى هذه البيوت؟! نعم للتطوير.. لا للتهجير أما ماجد إسماعيل المحامى أحد أعضاء "اللجنة الشعبية لحماية أهالى بولاق" فيتحدث عن إهمال تحظى به منطقة العشش من الدولة التى لم تراع حال البسطاء وتخصص للأهالى شققا تحميهم من خطر الموت الذى يهدد حياتهم فى كل لحظة ، مشيراً إلى عجز الحكومة عن تهجير السكان لأنها ستواجه مشكله أكبر وهو " البطالة" لعدم تفكيرها عن مصادر رزقهم وأكل عيشهم خاصة أن 90% من سكان رملة بولاق عاطلون وبدون عمل. ويتطرق إلى مشروع القاهرة 2050 – الذى أعده الحزب الوطنى المنحل عام 2008 – الهادف لتهجير سكان 29 منطقة فى القاهرة إلى خارجها خاصة المناطق المطلة على كورنيش النيل وتحويلها إلى متنزهات وفنادق عالمية وحدائق عامة ، وإزالة مساكنها لإقامة أبراج إدارية وخدمية على أنقاضها، وذلك بدلا من تطوير المنطقة وتنفيذ احتياجات ومطالب سكان العشش ، وقال إن لجنتهم ترفع شعار "نعم للتطوير..لا للتهجير". ويهاجم حاتم عبد الرحمن –مدرس- من أهالى المنطقة النظام السابق الذى نجح فى تشتيت الناسى بين حلم التطوير والبقاء وبين الرغبة فى الانتقال لمكان جديد . ويضيف:لابد أن يكون للحى دور فى إنقاذ هؤلاء البشر بتقديم أدنى الخدمات لهم كتوفير حنفية فى كل مسكن بدلا من الطوابير الطويلة التى لاتنتهى أمام حنفية مياة الشرب العمومية ، فضلا عن إزالة القمامة من الشوارع ، وإصلاح الشوارع التى لا يتعدى عرضها مترا واحدا، وعلى الدولة أن تضع مواطنيها فى الحسبان ولا تلهث خلف مستثمرين يعرضون أموالا باهظة فى مقابل هجرة الأهالى. قلوب خضراء لم نذهب إلى السيدة دولت رضوان محمد لننقل صورة أخرى لفقراء المنطقة ، فمن قادنا إليها قال إنها تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وطبيعة أهلها ، كما أن جيرانها رشحوها لتنوب عنهم فى الحديث. تعترف دولت بأنها تحب المكان وتستدرك: "بس نفسى يبقى حاجة جميلة.. غيراللى احنا فيها دى" وتعد 50 أسرة من جيرانها ليس لهم مصدر رزق إلا من خلال معاش التضامن الاجتماعى الذى يتقاضاه المسنون ، وتأسف لحال أغلب الشباب الذين أضاعتهم الشرطة ولفقت لهم القضايا ليصبحوا مسجلين خطر: نفسى حد يقف جنبهم و ينهضوا ..ميبقوش دول عقبة مصر".. وتقسم"والله دول مش هما البلطجية اللى بيقولوا عليهم ..البلطجية هما اللى مطلعين لهم فلوس من الدولة وبينزلوهم يحاربوا الفقر" فى يوم 28 يناير قبل الماضى خرجت دولت من منزلها مع ابنتها لتشارك الثوار طموحاتهم نحو الحرية..وتقول "كنت عايزة أوصل صوتنا للناس.. على الأقل الميتين بيتحاسبوا عند ربنا .. إنما احنا بنتحاسب حساب العبد للعبد". نفسى رملة بولاق يبقى فيها فرن .. مفيش فرن إلا فى السبتية.. مفيش هنا صرف صحى .. ربنا يكرم جمعية رسالة وقفوا معانا ودخلوا مواسير مجارى بس ملقناش حد يساعدنا ويكمل المشروع .. استغاثة على الانترنت قبل أن نصعد معه إلى شقته التى يسكنها فى إحدى عمارات "الرملة" يصف ،وليد عبد المجيد،حاله بالأفضل حيث يسكن فى شقة من غرفتين وصالة تعيش فيها ست أسر ينفرد فيها بواحدة يعدها لعروسه التى خطبها منذ ست سنوات، بينما يختصر أحلامه فى الحصول على كشك صغير يطعمه لقمة حلالاً ويحميه من شر نفسه، ويضيف :حصلت على تصريح له برقم 3937 بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بمساعدة أحد محامين الحق المدنى لكن المحافظة خيبت ظنى ولم تعطينى إياه. " أنا مسجل خطر تائب ، هل من مساعدة؟" يستغيث وليد على صفحات الإنترنت كى يحصل على وظيفة تعوضه عما لحق به من أذى على أيدى رجال الشرطة الذين جعلوه مسجل خطر فى الرابعة عشرة من عمره، ليصل عدد القضايا الملفقة له إلى ثلاثين قضية حصل فيها على براءة دون رد شرف. ويضيف:" لما المسجل يعمل حاجة غلط حاسبوه ،لكن لما يتوب شجعوه ، عشان يكمل فى الطريق الصح"