مات صاحب العقل الكبير وصاحب القلب الكبير, مات الأخ والأستاذ والمعلم والصديق, مات وترك القلب يدمي حزناً علي فراق أعز إنسان وأغلي إنسان وأكرم إنسان وأشجع إنسان, مات الإنسان الكامل في عطائه, مات الإنسان الكامل في تفانيه وحبه لبلاده, مات المعلم مخلصاً متفانياً في إخلاصه لعمله وفارقت روحه هذا الجسد الهزيل الذي أنهكه المرض, وهو في رحاب عمله يؤدي واجبه العلمي نحو بني وطنه؛ وليس هذا بالفضل القليل, مات في قاعة المحاضرات بين طلبته ومريديه, أي ميتة شريفة هذه, وأي نهاية سعيدة يتمناها السعداء. مات شيخ الفلاسفة في عالمنا العربي والإسلامي, مات صديق ابن رشد الصدوق, مات الدكتور عاطف العراقي أستاذ الفلسفة العربية - كما يحب أن يسمِّيها - بآداب القاهرة, مات الأستاذ الكبير والمعلم المفطور علي حب العلم وعشق التعليم, مات ميتة الشرفاء وهو في ميدان الجهاد, فكما عاش مجاهداً في ميدانه ومناضلاً, مات كذلك وهو يجاهد في سبيل العلم والتعليم. كان أستاذنا قيمة عظيمة في حياته تماماً كما شهد موته مثل هذه القيمة الكبيرة: قيمة في الخلق وقيمة في العلم وقيمة في الفكر وقيمة في الأدب, وأعلي من تلك القيم مجتمعة هي قيمة القلب والشعور: عطوفاً إلي أبعد غايات العطف وعنيفاً إلي أبعد غايات العنف, عطوفاً من حيث لا تتوقع منه العطف وعنيفاً من حيث لا تتوقع منه العنف.. إن هذا الرجل الذي خدم أمته خدمة الأبطال الشرفاء لا يأبي أن يموت إلا ميتة الأبطال الشرفاء المجاهدين لا لشيء إلا لأنه «رجل قيم», عاش لها وظل يدعو إليها في حياته, ومات من أجلها وفي سبيلها. إنها لبطولة قلب وعقل وضمير، قبل أن تكون بطولة قلم وقراءة وكتابة, بطولة إنسان شريف بكل ما تحمله الكلمة من معني وما تؤدِّيه من مضمون: خدم أمته قديماً وحديثاً فنقب في تراثها تنقيب المجاهد الشريف واختار لنفسه أنصع صفحات هذا التراث خلوداً ليطرق عليه عازفاً ألحانه بعقل محيط وقلم شغوف بما يكتب, وبضمير مؤمن وواثق بما يقول.. وفيما يقول: من الكندي والفارابي وابن سينا فلاسفة المشرق العربي إلي ابن باجة وابن طفيل وابن رشد فلاسفة المغرب العربي، ومن ابن رشد موضوع رسالته في الماجستير إلي ابن سينا موضوع رسالته في الدكتوراه, من بحوثه الخصبة الثرية عن هؤلاء الفلاسفة العرب والمسلمين خدمة لأمته في القديم إلي كتاباته التنويرية والعقلانية عن زعماء الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي, الطهطاوي, والأفغاني, ومحمد عبده وقاسم أمين ولطفي السيد ومصطفي عبدالرازق ويوسف كرم وطه حسين وعباس العقاد وعثمان أمين وزكي نجيب محمود وغيرهم, وغيرهم ممن يفوقون الحصر والتعداد كتب عنهم وعايشهم أصحاباً ورفاقاً في مقامات علوية في صومعته البسيطة بمدينة نصر منعزلاً متوحداً متأملاً في هدوء العدم والفناء؛ لا بل ليحفر اسمه عالياً مدوياً خالداً بين هؤلاء الخالدين؛ ثم ليؤدي نفس الدور الذي أداه قديماً لأمته. هذه الأمة التي أحب ترابها ولم يفارق بلاده بحثاً عن مجد زائل أو وهم محتقر ممجوج، لكنه واصل عمله الذي تفرَّغ له ولم يتزوج ليعيش راهباً للفكر لا تحيط به الشواغل سوي شواغل الطالبين, واصل عمله ليلاً ونهاراً ليعطي عين العطاء لأمته فيُوصل لها طارقاً بتليد أو معاصرة بأصالة أو جديداً بقديم. عزف أستاذنا لأمته علي قيثارة العقل فأخرج منها ألحاناً سرمدية, وظل مؤمناً - طيب الله ثراه - بما استخرج من ضروب الفكر والثقافة؛ كتاباً يتلوه كتاب ومقالة في إثر مقالة؛ ناهيك عمَّا كان اقتطع من وقته الثمين لخدمة تلاميذه في الإشراف ومناقشة الرسائل الجامعية أو كتابة التصديرات لكثير من كتب تلاميذه في شتي فروع الفلسفة وعلي اختلاف التخصصات فيها.. ومن أجل فكرته دافع عن إيمانه بما يقول أو يكتب, وخاض معاركه الفكرية من أجل المبادئ وتحت بواعث القيم العلوية ووقف أمام محكمة جنايات المنصورة في فترة من فترات تاريخه الفكري، وكان هو رجل الفكر والفلسفة الأوحد في مصرنا المعاصرة هو الذي وقف مثل هذه الوقفة إيماناً بما عنده من قيم ومن مبادئ.. ولكم كان كثيراً ما يأسف أسفاً مقروناً باعتزاز بتلك الحادثة فيشير إليها في كثير من المناسبات فضلاً عن تدوينها في كتبه قاصداً تنبيه العقلاء من الناس إلي ضرورة الوقوف بجانب الفكر ورُعَاته لا إلي التزيد في اضطهاد المفكرين. ومن النزعة العقلية بدأ وإلي العقل عاد، وهكذا دواليك حياة عاشها في تبتل غريب, ونادر أن يكون إلا من أولي الإرادة الحديدية من أهل الفكر والفلسفة والقيم العلوية. كان طيب الله ثراه مثالاً للأستاذ الجامعي المفطور علي البذل والعطاء وعلي الخدمة العلمية والفكرية ومراقبة الله في عمله وقصده؛ لكنه ينقلب إلي عنف في ساعة يراها من أخس الساعات هي الساعة التي يشهد فيها التنكر والجحود وقلة القيمة ممن لا أصل لهم ولا قيم ولا مبادئ, ينقلب عطفه إلي ثورة عنيفة, وينقلب وداده إلي كراهية شديدة، وتظل شكواه آسفة إلي من يحيطون به من المقربين وكأنه طفل صغير هذا المارد العملاق.. أثرت ثوراته العنيفة التي جاءت كرد فعل يتخذها ضد من غدروا ومن خانوا ومن تنكروا وجحدوا علي أعصابه وطاقاته النفسية فكان يصرف طاقته كلها في العمل ليل نهار ويجد عزاءه الوحيد في صحبة الفلاسفة والمفكرين وفي الكتابة عنهم واستخلاص مذاهبهم وآرائهم ونقد مثالبهم ونواقص تفكيرهم إلي الدرجة التي اعتاد فيها ألا ينام سوي ثلاث ساعات يومياً.. أسفرت تلك الغصة المريرة عن إصابته بجلطة في المخ منذ سنوات بعيدة ظل يتعاطي العلاج منها وتراكم المرض عليه في أخريات حياته ومع ذلك كان يعمل بجد وكأنه شاب في مقتبل العمر لا يتخلف عن محاضرة ولا عن موعد ولا يعتذر عن لقاء علمي أو أدبي في المحافل العلمية والثقافية التي كانت تتشرَّف بمُحيَّاه. إنما الجوانب الإنسانية في شخصه الكريم ليس لها حدٌ فيُعْربُ عنها ناطقُ بفم.. أي والله! كان عطوفاً غاية العطف وكأنما اشتق العطف من اسمه ودل رسمه علي اسمه, وأفاضل الزملاء الذين رافقوه ولازموه يقرون بذلك، لا تشبع النفس من أطايب مروياته ولا يسأم العقل من عذوبة أحاديثه, ولا يشعر المرء في صحبته إلا شعور الصدق والمودة والإخاء وموالاة الصادقين: حكمه علي الناس حكم المخلص في عمله، ومن ثمَّ كانت موالاته تماماً كما كانت عداوته, يوالي المخلصين ويعادي المنتفعين الذين يصحبون الناس لتحقيق مصالحهم ثم هم من بعدُ علي ديدن التنكر والجحود والاستطالة علي الشرفاء. فإلي رحمة الله.. أستاذي, وفي سبيل الله مثواك الأخير، جزاؤك موفور بقدر ما أعطيت وأبقيت ومدخر عند الله, ولكَم كنت تردد كثيراً في أواخر حياتك قول شاعرنا العربي تتمثله وتدونه في كتاباتك: هذه آثارنا تدل علينا.. فانظروا من بعدنا في الآثار. ماذا عساها تملك قلوبنا أمام تلك الفجيعة في مصابك غير الضراعة لله وحده بخالص الدعاء لك بالرحمة والمغفرة؟.. وماذا عساها كانت تملك من بعدك أقلامنا غير أن تنقب في آثارك لتوفيك حقك، وما نظنها مجتمعة من تلاميذك ومريديك بمستطيعة؟!.. إن كاتب هذه السطور ليبكي وحيداً في غربته علي فراقك دماً بدلاً من الدموع.. ألم تخبره عبر الهاتف أنه قد آن أوان الرحيل وأنك قد عرفت لحظة الفراق من نفسك, لكن لا تنطق بها خشية علينا نحن تلاميذك، ومع ذلك ركب هذا التلميذ العاق رأسه فغادر البلاد, لقد أورثه فراقك غصة مريرة تلازمه طيلة حياته.. ألا فيا أعزَّ الناس, ويا أغلي الناس, ويا أشجع الناس، بماذا نعتذر إليك ولم نتمكن من وداعك، وكيف نطفئ لوعتنا المخامرة علي مصابنا فيك؟.. لكنه الموت الذي كنت تخشاه أن يصيبك في صومعتك وحيداً ويخشاه معك كل رقيب مثلك علي ضميره, طبت حيَّاً وميتاً وطاب مثواك يا أستاذي.. فإلي رحمة الله الواسعة مثواك الأخير. *بقلم- د. مجدي إبراهيم