قال الفيلسوف: »أن تكون حرا فإن هذا لا شيء أما أن تصبح حرا فهذه هي الجنة«.. تصنع الحرية بالجهاد والثورة.. من يري مصر الآن في كل ربوعها لابد أن يعتريه اليقين أننا الآن في الجنة أو علي أبوابها.. جنة صنعها خيرة الشباب إذ قادوا الثورة الشعبية المعجزة في تصميم وعطاء من أجل الحرية فوضعونا علي مشارفها البهية، خرج الشباب بعد أن حل الظلام الدامس فصار لزاما أن يتكاتف البشر من أجل إشعال النورالداخلي المودع في النفوس.. مهما كانت المصاعب فنحن في جنة إذ نري رحيل رأس النظام الطاغي عن الحكم وتصدع أركان دولة الظلم حتي تمحي وتبيد، نحن في جنة إذ سقطت أقنعة الزيف عن المعدن الأصيل لشعبنا فلم نعد نري إلا مصر ذلك الحضن الكبير الذي نرتمي فيه ونهنأ ببدء الكفاح نحو النهضة.. عادت المحروسة الي أهلها في لحظة إفراج عظيم منحها الله لفتية آمنوا بربهم وبأنفسهم فلبي لهم الوطن النداء حتي كان لهم النصر المبين. نحن في جنة إذ مارسنا أن الحقوق تؤخذ ولا تمنح وأن الإرادة الصلبة تصنع المستحيل في حياة الشعوب وأننا نمتلك من الإرادة ما يكفي ويزيد، لكي تصنع الإرادة فعلها لابد أن نتزود بإيمان عظيم يجعل الحلم حاضرا ومنيرا أمام نظر المؤمنين.. ولكييعظم عمل الإيمان في القلب فهذا يحتاج الي الحب وإلي الصبر.. والمصريون أساتذة في هذه القيم والمعاني. إن هذا الذي حدث رغم عدم معقوليته شكلا إنما هو نتاج لمخزون حضاري يعرفه المصريون الذين أهدوا البشرية الحضارة والعلم والدين.. وأهدوا العالم اليوم ثورة مصرية شفافة نورانية أعادت الروح الي مصر.. مصر المعطاءة الصبورة، المكافحة، السمحة، الفكهة. نحن في جنة لأننا نري سقوط مخطط الفساد الذي أرادوا به حماية الحاكم بدوائر من المفسدين تكاد تزهق روح المصري.. مصري تخرج اليوم صبية فتية ترتدي ملابس عرسها وتتعطر بالندي وتسقي بالورد علي يد شباب استوعب دروس الماضي وأدرك بشاعة الحاضر وأبطل دهاء المجرمين المحترفين وكسر شوكة العناد الخالي من الكرامة ومن المحبة للناس. نحن في جنة لأن هذه الثورة العظيمة التي تبهر الدنيا كلها حتما ستدرس رغم عفويتها وتلقائيتها.. كيف استطاعت الجموع أن تشل فاعلية السلاح المصوب الي الصدور؟ كيف صمد الشباب أمام الضرب والجراح والقتل؟ كيف أن بسالتهم امتدت الي كل قطاعات الأمة فلبوا النداء وجاءوا من كل بلد وحي يهرعون الي الميدان؟ كيف طور الشباب أساليبهم حين انتقلوا من التظاهر الي الاعتصام ومن الاعتصام الي عملية حصار سلمي منظم الي قصور الرئاسة والتليفزيون والمؤسسات الحاكمة فبثوا الرعب في قلوب المستأسدين علي الشعب.. إن المظاهرات العارمة التي امتدت بالملايين في كل بقاع مصرحاصرت نظام الطاغية وحسمت تدخل الجيش الي جانب الشعب حاميا وضامنا. نحن في جنة لأننا نتأكد كل يوم أن الجيش يقوم بدور تاريخي حتي يسلم السلطة حرة الي أبناء مصر. نحن مع العشاق في أفراحهم وعيونهم يقظة لا تطمئن تحمي الأهداف النبيلة وتجدد الولاء لدماء الشهداء. في ميدان التحرير كنا مع مصر الزاهدة التقية التي تكتفي بالقليل لأنها تمتلك غني النفس.. ثورة هزمت المادية الشرهة لذلك العصر الفاسد الذي جعل الفساد والسرقة وسيلة للرفعة الكاذبة. المجتمع الذي شيده الشباب في الميدان شديد المصرية، عميق الانتماء.. درس مسيرة الثورات السابقة وعمل علي تجنب أخطائها وأدرك ماذا يريد فلم يتوقف حتي حقق ما يريد. في قراءة للمفكر الكبير أحمد بهجت نجد حديثا نحتاجه عن البحر والمستنقع الفارق الهائل بين المشهد الميداني لثورة الشعب والمشهد التسلطي بأنانيته وعزلته.. ليقول إن الإنسان قادر علي أن يخلق بحرا عظيما تصطخب أمواجه ولا تتوقف عن الحركة.. والبحر نقاء رائع لا نهاية له.. هكذا بدا الشعب.. أما المستنقع فهو يمثل الكائن الذي ينحصر في ذاته.. ولا يحزنه البؤس الإنساني ولا تحركه النماذج الثائرة في التاريخ وحين يتوقف أي كائن من الحب يتحول من بحر الي مستنقع هكذا كان نظام الحكم السابق الذي لوث الحياة والهواء والنيل وفرض علينا طويلا حكم المستنقع. إن مشهد مصر الآن يحرك العالم كله قلبا وعقلا.. نحتاج الي شعراء بل الي شعراء صوفيين يتحدثون عن الجنة التي نعيشها أو نطل عليها.. أليس فيما فعل الشعب معان من إبداعات الصوفية نسمع الي »ابن الفارض« أمام العاشقين في معانيه الرمزية أليس حب الشعب من حب الله يقول: كل من في حماك يهواك لكن .. أنا وحدي بكل من في حماكا يحشر العاشقون تحت لوائي .. وجميع الملاح تحت لواكا أليس في كلمات السهروردي .. بعض من هوي عشاق مصر إذ يقول: لا ذنب للعشاق إن غلب الهوي .. كتمانهم فنما الغرام فباحوا سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها .. لما دروا أن السماح رباح أليس في الأيام السخية التي تعيشها مصر ما يجعلنا ننصت الي صوت المتصوف »اليافعي«: فيا ليلة فيها السعادات والمني .. لقد صغرت في جنبها ليلة القدر