احتفالية استثنائية.. ليس فقط لأنها تحتفل بمرور 150 عاما على ميلاد جورجى زيدان, ولكن لأن من شاركوا فيها من تلاميذ ومُحبى الراحل الكبير والذين حاولوا من خلال كلماتهم رد الاعتبار لأحد رموز العمل الأدبى والفكرى الذين قصرنا فى حقهم، فجاءت الاحتفالية لتلقى الضوء ليس على جورجى زيدان فقط ولكن على التيار المستنير الذى يمثله. و"جورجى زيدان" هو الكاتب والصحفى صاحب مؤسسة دار الهلال الذى استطاع رغم عمره القصير أن يقدم للثقافة العربية تياراً مستنيراً يتمسك بالتراث الثقافى والحضارى والعربى والإسلامى.. دون انغلاق فقد انفتح فى نفس الوقت على الثقافة الغربية ونهل منها. جاءت الندوة تحت عنوان "مائة وخمسون عاماً على ميلاده.. جورجى زيدان قرن ونصف من التنوير" وشارك فيها الكاتب الصحفى حلمى النمنم رئيس مجلس إدارة دار الهلال والكاتب عادل عبد الصمد رئيس تحرير مجلة الهلال والكاتب أحمد حسين الطماوى والدكتور حامد أبو أحمد أستاذ النقد الأدبى بجامعة الأزهر. فى البداية تحدث الكاتب الصحفى حلمى النمنم مشيرا إلى أن جورجى زيدان أحد الأعمدة المستنيرة فى الثقافة العربية، هذا الشاب السورى الذى جاء إلى مصر كى يدرس الطب لكنه بمجرد أن وصل إلى القاهرة اشتغل بالصحافة، وأسس مجلة الهلال العريقة ولعب دوراً هاماً كمؤرخ للتراث الإسلامي والعربى ومن أهم كتبه "تاريخ التحدث الإسلامي" فى خمس أجزاء فضلاً عن مشروعه الضخم فى كتابة التاريخ الإسلامى على شكل روائى فى 21 رواية.. ورغم أن الراحل سورى الجنسية إلا انه كان مصريا حتى النخاع. وقال حلمى النمنم: "مجلة الهلال احتفلت هذا الشهر بميلاد الراحل الكبير.. فقد أصدرنا رواية «الحجاج بن يوسف الثقفى» التى نفذت فور صدورها وفى خلال شهر واحد فقط .. وهذا إن دل يدل على ظاهرة جديدة للقارئ العربى الذى لا يعتاد القراءة". وأضاف: إن "كتابه تاريخ مصر فى العصر العثمانى" وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات كان يلقيها لطلبة كلية الآداب عند افتتاح الجامعة المصرية يعد إضافة مهمة للمكتبة العربية.. لكن طيور الظلام فى تلك الفترة هاجموا تدريس «جورجى زيدان» المسيحى للتاريخ الإسلامى مما أدى فى النهاية إلى غلبة المتعصبين الإسلاميين واعتذار جورجى زيدان عن إلقاء هذه المحاضرات.. وهؤلاء المتعصبون لم يخجلوا بعد ذلك من أن يدرس فى الجامعة مستشرقون أجانب!". من جانبه بدأ الكاتب الصحفى عادل عبد الصمد بتوجيه التحية للشعب المصرى الذى ثار فى 25 يناير وثورته وحدت الصفوف من أجل مصر العظيمة، وخير دليل على عظمة مصر هو أننا نحتفل اليوم بجورجى زيدان السورى الجنسية الذى كافح وعاش فى مصر وأصدر الهلال، نحتفل بصاحب المشروع الثقافى التنويرى فى ذلك الوقت. وقال: "روحه الثورية تجسدت فى إصدار مجلة الهلال وأول عدد لها صدر سنة 1892 لتبدأ مشروعا ثقافيا مهما فقد قدم من خلال المجلة عددا كبيرا من التراجم الأجنبية والعربية ودعى إلى الحفاظ على الثقافة الشرقية مع الأخذ بكل ما هو حديث ومفيد كما اهتم بنظرة داروين «النشوء والارتقاء».. وكان مؤمنا بالاختلاف فقد أفردت صحافة الهلال للمؤيدين والمعارضين لهذه النظرية. وأضاف عبد الصمد كذلك كان اهتمامه بالثقافة العربية ولغاتها وآدابها ودعا جورجى زيدان إلى الاستقلال الأدبى وحرية الصحافة، حيث كان يرى أن ذلك دليل الارتقاء لذلك لم يكن غريبا أن يساعد فى انتشار صحف كاللواء؛ كذلك ساند المرأة وحريتها قبل قاسم أمين وذلك من خلال رسالة قارئ جاءت فى مجلة الهلال عن حقوق المرأة ودخل فى المناقشة ودعا إلى ضرورة خروج المرأة من الحرملك لتنزل إلى الحياة العامة وكذلك ساهم فى إنشاء الجامعة المصرية، وما أحوجنا إلى أفكار جورجى زيدان فى تلك الأيام. واختتم عادل عبد الصمد كلامه قائلا: "رغم أنه مات قبل الخمسين إلا أنه قدم أعمالا جليلة.. استكملها من بعده أبناؤه إميل وشكرى فصدرت الكواكب ومجلة سمير للأطفال والمصور وكتاب الهلال ورواية الهلال". أما الكاتب والمؤرخ أحمد حسين الطماوى فقال: "تعرفت على الأستاذ جورجى زيدان فى وقت مبكر من عمرى حيث عرفته وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى ؛ وبنيت معارفى على أعداد الهلال وعدت لأصولها منذ عام 1892.. ثم قادنى حب الاستطلاع إلى أن أقف على حياة جورجى زيدان قبل الهلال لأعرف سيرته الفكرية". وأضاف: "كان جورجى زيدان فى صباه الباكر يحب الشعر والنظم ولم يكن الشعر فى ذلك الوقت وظيفة بحد ذاته، قرأ جورجى زيدان للمتنبى وابن الفارض ثم تمادى فى هذا الاتجاه وعندما أصدر الهلال كتبا عن المتنبى وغيره كأبونواس وأبوالعتاهية، وسنجد بعض القصائد الشعرية لجورجى زيدن فى بعض الروايات التى كانت تصدر فى ذلك الوقت فهو شاعر أنتج شعراً". ثم بعد ذلك ابتدع فى مجلة الهلال أساليب مبتكرة فى الشعر فتحدث عن وحدة القصيدة أو وحدة موضوع القصيدة وانتقد الطريقة المتبعة فى هذا الشأن حيث كان العرب يستهلوا قصائدهم بالخمر والغزل، أما جورجى زيدان فيرى أن تكون القصيدة فى موضوع واحد وترتبط المقاطع بالمطالع وتوظيف الوصف على النمط الغربى أى وصف الطبيعة والنفس والمشاعر وانتهز فرص الاحتفالات بصدور «الإلياذة» ترجمة البستانى لكى يوسع فى هذا المطلب و نادى بهذا الطلب عدد كبير من المجددين من الشعراء كالعقاد والمازنى وغيرهم وكذلك طالب جورجى زيدان أن تكون حياة الشاعر من شعره، وللكاتب الكبير العقاد كتاب مهم عن ابن الرومى.. استنتج فيه بعض تفاصيل حياة ابن رومى من خلال قصائده. واستكمل الطماوي حديثه :"استمر جورجى زيدان فى هذا الاتجاه الشعرى كناقد أدبى واستفاض فى هذه المبادئ النقدية وتحدث فيما بعد عن المسرحيات وفى نهاية كل عدد من أعداد الهلال كان يخصص فصلا بعنوان «تقاريظ وانتقادات» ويعنى بها النقد الموضوعى الذى يتحدث عن محاسن العمل ومساوئه واستمر فى نقد الأعمال النثرية والمسرحية وعندما ضاقت الناس به توقف وأصبح يكتب فى المسائل العامة وحينما كان يتلقى كتابا كان ينقده ويرسل خطابا سريا إلى صاحبه بهذا النقد، وهذا الجانب الشعرى والنقدى فى حياة جورجى زيدان مازال مجهولاً ولم يأخذ حقه من الاهتمام". وأشار الدكتور حامد أبو أحمد إلى أن جورجى زيدان يمثل عدة محاور أولها ما يتعلق بالإرادة فهو صاحب إرادة قوية وحديدية فقد جاء إلى مصر من الشام مثل غيره أواخر القرن التاسع عشر وأقام مشروعات ضخمة ومبنى دار الهلال الذى أقامه جورجى زيدان مبنى تاريخى وله دلالة عميقة على قوة الإرادة.. فعندما جاء إلى مصر لم يكن يملك شيئاً وفى سنوات قليلة بني هذا المبنى العملاق. كما أنه عاش سنوات قليلة لم تتجاوز الخمسين عاماً ورغم ذلك مساهماته تتعدى هذا العمر القصير وهذا أيضا دليل على قوة إرادته. أما المحور الثانى كما قال د. أبو أحمد فهو أن جورجى زيدان مؤرخ عميق الدراسة فكتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام» و«التمدن فى العالم الإسلامى» ينمان عن مؤرخ كبير كما وصفه د. حسين مؤنس وهو أستاذ فى الدراسات الأندلسية بأنه واحد من أعظم المؤرخين. ويضرب د. حامد مثالا بروايات تاريخ الإسلام وتحتوى على 21 رواية مشيرا إلى أنها مكتوبة بطريقة شيقة وجذابة ونحن طلاب فى الإعدادى والثانوى كنا نقرأ روايات تاريخ الإسلام وكانت محببة جدا إلينا لأن جورجى زيدان كتبها بحسه الروائى والتاريخى وقد كان حريصاً عن الخلفية التاريخية وكان لديه معرفة عميقة بالتاريخ ويستفيد من كتب التراث الإسلامي ك"الأغانى للأصفهانى" و"الآمالى للقالى" وكتابات الجاحظ وهو ما يلاحظ أكثر فى رواياته مثل «عبدالرحمن الداخل» و«المملوك الشارد» و«غادة كربلاء». كما أنه عندما يكتب التاريخ يأخذ من هذا التاريخ لقطة إنسانية يبنى عليها روايته. واختتم ابو أحمد حديثه قائلا: "نحن أمام مؤسسة عظيمة وليس مجرد شخص". وحول أسئلة الجمهور عن الجانب الإنسانى فى حياة جورجى زيدان.. عقّب أحمد حسين الطماوى: "جورجى زيدان كان يقف فى مكتبة الهلال يبيع الكتب وهذا سر عبقريته وفى إحدى المرات جاء العقاد يبحث عن كتاب «فلسفة الجمال» فتبسم جورجى زيدان وقال للعقاد: هذا الكتاب غير متوفر لدينا.. وهذه خبرات حياتية أضافت إليه الكثير، هذا إلى جانب سفرياته كل عام إلى أوروبا حيث كان يزور المتاحف ويقرأ للمستشرقين إلى جانب إجادته أكثر من خمس لغات وجورجى زيدان كان يفعل كل شىء بترتيب ونظام ونحن نضيع كثيرا من الوقت بدون إبداع أو إضافة". وردا على سؤال عن بريق الكاتب جورجى زيدان واستمراره حتى الآن فى حين أن هناك بعض المؤسسات الثقافية الموجودة الآن لا تحظى بكل هذا البريق والنجاح.. قال عادل عبدالصمد: "إن مصر وحضارتها العميقة كانت مؤهلة لاحتضان عبقرية بحجم جورجى زيدان وتنميتها ومازالت الهلال تعمل على هذا المنوال وتقدم الفكر الجاد فى الدراسات النقدية والكتب وتحمل رسالة التنوير التى تهم القارئ العربى فى كل مكان". وعن ضرورة إعادة طبع جميع الأعمال الروائية لجورجى زيدان الكاملة بدلاً من طباعة رواية واحدة وهى رواية «الحجاج بن يوسف الثقفى» كذلك السؤال حول تكرار طبع الروايات المترجمة ولكن بأسماء مختلفة. وقال الدكتور حامد أبو أحمد: إن الهلال شأن المؤسسات الثقافية تعرضت فى ظل نظام مبارك إلى التهميش حيث كان يريد أن يقضى على القطاع العام ودار الهلال جزء من هذا القطاع.. لكن الآن وبعد الثورة فالقادم أفضل. وردا على سؤال هل كان جورجى زيدان تدس كتاباته السم فى العسل رد أبو أحمد : "هذا كلام مغلوط والحضارة العربية لا يوجد فيها هذه التفرقة بين المسلم والمسيحى واليهودى وجورجى زيدان وأنا أدرس فى الأزهر أراه يكتب فى التاريخ الإسلامى بحب واعتزاز". واختتم حلمى النمنم اللقاء قائلا: "تكمن عبقرية جورجى زيدان فى امتلاكه ملكات خاصة شأنه فى ذلك شأن عباقرة آخرين فالكاتب الفيلسوف عبد الرحمن بدوى أصدر أكثر من مائة وعشرين كتابا مترجما وتحقيق وشعر بينما هناك فيلسوف آخر اسمه يوسف كمال أصدر طوال حياته أربع كتب فقط". وأشار إلى أن هناك جانبا خفيا من حياة جورجى زيدان وهو سفرياته وكتبه: «الرحلة إلى أوروبا» «الرحلة إلى تركيا» «الرحلة إلى فلسطين» حيث زار كل المستوطنات الصهيونية وكتب عدة حلقات فى الهلال وقال بصراحة: إنه إذا استمر الحال فى فلسطين على هذا فسوف تضيع فلسطين للأبد من العرب والمسلمين. ولعل ما حدث بعد ذلك من صدور وعد بلفور وضياع جزء كبير من فلسطين عام 1948 وما تلاه من مآسى فلسطينية تجعل ما قاله جورجى زيدان نبوءة تحققت.