دار المسنين.. عالم مصغر من الذي نعيشه.. لكل نزيل من نزلائه قصة مختلفة دفعته للجوء إلى الدار، وبالرغم من أن المكان يجمعهم إلا أن لكل واحد منهم طريقته للتعايش مع الآخرين من زملائه، منهم الراضي ومنهم المتفائل ومنهم السعيد بحياته الجديدة، ومنهم العاشق للعمل الاجتماعي وخدمة زملائه .. وبالرغم من مسحة الحزن التي تبدو على ملامحهم أحيانا وفي نبرات صوتهم في معظم الأحيان خاصة عندما يأتي ذكر الأهل والأبناء إلا أن ما يجتمعون عليه جميعا أنهم نماذج متصالحة مع نفسها ومجتمعها الجديد الذي تتعامل معه كبداية لحياة مليئة بالتفاؤل والتضحية وخدمة من هم في حاجتهم. مسن سبور بمجرد وصولك للدار تجده في استقبالك .. أسمر ، أنيق الملبس، ابتسامته لا تفارقه، يتحدث بلباقة ظاهرة تجعلك تظنه المسئول الأول عن الدار ، ولكن المفاجأة.. أنه أحد النزلاء ( م.أ. ع) عمره 70 عاما متواجد بالدار منذ 7سنوات ، في بداية حديثه رفض التصوير أو ذكر اسمه لعدم إحراج أبنائه ، بدأ في سرد قصته قائلا: أمضيت حياتى بالعمل في بلد عربي.. وكنت أحسب نفسي من الأغنياء، وعندما عدت لمصر وقررت البقاء مع زوجتى وأولادي ما تبقي لي من العمر، فوجئت بأنها استولت على ممتلكاتى وعاملتني أسوأ معاملة هي وأبنائي .. لم يستطع الرجل الأنيق أن يحبس دموعه التي ظهرت في عينيه عندما تذكر ابنته الصغيرة ريهام ،التي توفت وكان يعتبرها البلسم الذي يعينه على تحمل جحود زوجته وسائر الأبناء، وهو ما دفعه لتطليق زوجته والذهاب لدار المسنين. يقول: جميع أقاربي لا يعلمون بوجودي في الدار ويظنون أنني سافرت للعمل في إحدى دول الخليج مرة أخرى. وقد تعمدت ذلك حتى لا أتسبب في تشويه صورة أبنائي. وفي محاولة للهروب من الواقع الأليم الذي عايشه مع زوجته وأبنائه يقوم (م .ع ) بخدمة جميع النزلاء كما لو كان موظفًا بالدار، فيقوم بمصاحبة المرضى للأطباء واستقبال الزائرين وإسعاف من يحتاج لمساعدة.. والغريب أنه يقدم المشورة لمن يريد ..! تهديد بالقتل مصطفى حسن ،مهندس معماري، 74 عام كفيف ، لم تفارقه روح الدعابة أثناء حواري معه ، بعد تعرضه لحادث منذ عشرين عاما فقد بصره ، وتم إحالته للتقاعد بسبب إعاقته ، وحينها بدأت حياته الأسرية تنهار ، حتى أنه قرر الإقامة بالدار من أجل المحافظة على علاقته بأبنائه بعدما قامت زوجته بتهديده بالقتل هي وابنه الكبير.. يقول الأب : لا أنسى كلمة زوجتي لابني عندما فشلت محاولة قتلهم لي "خلاص يا ابن ال... مش هنعرف نقتله الليلة دي"...! ويضيف: أنا فاكر التاريخ كويس (يوم الخميس 3 أغسطس سنة 1995 الساعة التاسعة مساء )، أتذكر تفاصيل ذلك اليوم عندما أغلقوا الأبواب وقطعوا سلك التليفون حتى لا أستنجد بأحد ، وقام جيراني بإنقاذي بعدما صرخت وطرقت بشدة على باب الشقة ، وظللت طوال الليل مستيقظا واقف على قدمي خشية غدرهم. ويتابع: صبرت حتى زوجت ابنتي التي كانت تقف معي وتحميني من غدرهم ، وبعد زواجها وجدت أن أفضل حل هو الذهاب لدار المسنين ، وأنا سعيد بالتواجد بين زملائي الذين عوضوني عن أسرتي، ولكن بسبب فقداني لبصري ومقاطعة أبنائي أشعر بالعزلة عن العام الخارجي.. عطاء وتقدير وجه باسم مشرق وعيون تلمع خلف نظارة طبية لرجل عجوز يلف وجهه بكوفية طول الوقت، يأتي ويروح بنشاط وحيوية لا تتلاءم وعمره الذي تجاوز السبعين ، فتراه في أسانسير الدار وفي كشك الاستقبال وفي غرف النزلاء.. يداعب الجميع بابتسامة توحي بطاقة هائلة مبعثها السعادة والرضا.. هو الحاج محمد السعيد ، بدأ حديثه بتعبيره عن اعتزازه بما يقوم به في الدار، وهو الدور الذي جعله يحصل على شهادة تقدير من اتحاد الأطباء العرب ، ويوضح أنه كان يعمل بالسعودية وكان يمتلك أكثر من نصف مليون ريال، ولكنه ترك عمله وأمواله عندما أخبرته شقيقته بضرورة عودته لمصر من أجل انتشال بناته من الضياع. يقول: تركت كل شيء ونزلت مصر لأن زوجتي فشلت في تربية أبنائنا والحفاظ عليهم ،وبالفعل طلقتها وأخذت بناتي وقمت بتربيتهن وتزويجهن، وتزوجت أمهم 8 مرات بعدي، ومازلت أراعي ابنتي وأولادها بعد وفاة زوجها، ولكني للأسف لم أتمكن من إصلاح أبنائي الذكور الذين عاملوني بمنتهى الجحود حتى اضطررت للإقامة بدار المسنين لكنهم لو أرادوا عودتي سأسامحهم فورا لأنهم أولادي. أم المسنيين الحاجة عائشة .. عمرها 65 عاما ، تمتليء نشاطا وحيوية.. الجميع يحبونها خاصة النزيلات اللاتي لم يتزوجن، فهن يعتبرنها أمهم وحافظة أسرارهم والأمينة عليهم .. لا تتسرع فهي ليست نزيلة بالدار كما ظننت لكنها إحدى المشرفات العاملات على رعاية النزيلات.. تقول أم المسنين - كما يطلقون عليها - أنها تأتي يوميا من شبرا لمصر القديمة لتراعي المسنات بالرغم من ضآلة الراتب، ولكنها تخلص النية لله في رعاية النزيلات والاهتمام بهن، مؤكدة أنها في ذات الوقت ترعي 4 أحفاد أيتام تركهم ابنها بعد وفاته. وعلى الرغم من إصابة زوجها بمرض صدري جعله جليس المنزل لا يتحرك، ترفض عائشة أن تكون عاملة مقيمة في منزل أحد المسنين بمرتب يصل لآلاف الجنيهات، لتظل مع نزيلات الدار اللاتي جمعتهن بها علاقة وطيدة منذ 15 عاما .